كي لا تضيع سوريا: هيبة الدولة باحتضان الجميع
سريعاً، يمكن أن يتحول "الأمل" إلى "فزع". حدث واحد يتكفل بزرع الرعب في الأرجاء المختلفة. كان انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد، فرصة حقيقية لتصحيح مسار التاريخ الذي أصيب بأعطاب كثيرة. لكن الفرصة يمكن أن تضيع. يمكن للخوف أن يجتاحك على حساب الفرح. ويمكن للدولة أن تتلاشى لصالح دويلات أو كيانات موازية. إن أخطر ما تعيشه سوريا اليوم هو حالة التهديد الوجودي لها، كدولة مركزية واستراتيجية في المشرق العربي. أي احتراب داخلي فيها لا بد له أن ينعكس على جوارها. ولبنان الذي استشعر أملاً بسقوط النظام، يمكنه أن يكون أكثر الخائفين والمتضررين. هنا تختلط القراءات في كل الحسابات. بين مصالح الدول وصراعاتها، ومخاوف الشعب السوري وهذا المجتمع الحيوي، الذي يمكنه أن يغرق في حمام دم جديد.
تجارب كثيرة
إن أخطر ما يجري في سوريا، هو تحولها إلى قنبلة موقوتة قابلة لأن تنفجر بشكل متكرر من الداخل، وبالمجتمع، وأن تطال شظاياها دول المنطقة. تجد سوريا نفسها اليوم أمام تجارب كثيرة، من بينها التجربة العراقية أو اللبنانية. علماً أن ما يمكن الاستفادة منه لبنانياً، هو "الحوارات" والاستناد إلى "قوة التوازن" لا توازن القوة وموازين القوى، والتي يمكن لجهات دولية وإقليمية كثيرة أن تتداخل في تغيير مساراتها والتأثير فيها. يمكن للتنوع السوري أن يكون منطلقاً لإرساء نموذج جديد على مستوى المنطقة، بالاستفادة من كل طاقات المجتمع السوري على اختلاف مكوناته. أما الخيار البديل، فلا بد أن يشرّع البلاد على عواصف كثيرة، فتهب عليها رياح متعددة الاتجاهات، تعصف بما تبقى من كيان ومن مرتكزات لأسس الدولة.
ما ورد من صور وفيديوهات للاشتباكات التي اندلعت في اليومين الماضيين في الساحل السوري ولا سيما في جبلة، ينبئ بالخطر الأكبر. فللحرب أصول، لا يجدر فيها تنفيذ الاعدامات الميدانية، ولا إذلال الأسير، وذلك سيجعل الأحقاد متناسلة ومتوالدة، ومن شأنه تأبيد الصراع بدلاً من حلّه. مثل هذه المشاهد والأساليب لا يمكنها أن تضبط وضعاً أمنياً أو عسكرياً، ولا يمكن للقوة أن تكون عنصراً وحيداً في حماية سوريا من الداخل. كما أن محاولة عزل مكون أو أكثر، تطويقه، أو تجويعه، أو استهدافه عسكرياً، ستنجم عنه صراعات لا تنتهي. وذلك ليس من مصلحة لا الإدارة الجديدة، ولا أبناء الطائفة العلوية، ولا الدروز ولا الأكراد.
زرع الأحقاد
منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، لم يحصل أي اندماج سياسي فعلي لكل مكونات المجتمع السوري في المرحلة الجديدة. استفاقت مواجع كثيرة، كان نظام الأسد قد عمل على تغذيتها لسنوات طويلة، فعرف كيف يزرع الأحقاد ويبعد السوريين عن بعضهم البعض، كما ارتكب المجازر ضمن استراتيجية "إدارة التوحش" ودب الرعب في نفوس السوريين، ليتمكن من السيطرة، واستكمل مسار حربه المستعرة القائمة على المجازر والتهجير طوال سنوات مساعيه لسحق الثورة، فمزّق سوريا طائفياً ومذهبياً وديمغرافياً، وقضى على كل مقومات الدولة ومرتكزاتها.
سقط النظام، وصلت الإدارة الجديدة التي تسعى إلى إعادة تعزيز منطق الدولة والمؤسسات، لكن الممارسة بقيت تنطوي على اختلالات كثيرة، خصوصاً بما يتصل بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالنسبة إلى المكونات الأخرى، ولا سيما أبناء الطائفة العلوية الذين يعتبرون أنهم قد كُسروا بسقوط النظام، وخسروا الكثير من الامتيازات التي كان يحظون بها طوال السنوات الماضية. هنا تستفيق مواجع تاريخية حول الصراع الطبقي، أو صراع أهل الساحل وأهل المدن الأخرى، أو صراع أهل الريف والمدينة.
الاحتضان
يوم استفاق أهل الساحل، أو "العلويون" على خبر هرب بشار الأسد من سوريا إلى روسيا، حطّ الطير على رؤوسهم، استشعروا الهزيمة وشعروا بالمهانة، وبالتأكيد أيقنوا حجم الخسارة الكبيرة، لا سيما أن الأسد كان قد أدخلهم في حرب لمصلحته السياسية، والتي ألبسها لبوساً طائفياً ومذهبياً، فوضع العلويين بوجه كل مكونات الشعب السوري ولا سيما الأكثرية. ولطالما خرجت صرخات بأن الأسد أحرق البلد وأحرق الطائفة أيضاً، وقتل شبانها في سبيل السلطة. استفاقوا صبيحة الثامن من كانون الأول 2024 ليجدوه قد غادر متخلياً عن الجميع. فهؤلاء حتماً لا يصب في مصلحتهم تكرار التجربة، وإن كان هناك من يحاول الاستثمار في كل النزاعات والصراعات أو حرب التهميش، لإدخالهم بصراع جديد من شأنه أن يسهم في توسيع الفوضى على كل الجغرافيا السورية. ثمة مسؤولية عليهم يدركونها بالتأكيد، لنبذ أي تكتلات تتخذ البعد الطائفي او المذهبي وتسلك مسار الصراع العسكري. لكن المسؤولية الأكبر أيضاً على الإدارة الجديدة، التي لا بد لها أن تشكّل حضناً يتسع لكل السوريين، بمختلف انتماءاتهم ومكوناتهم. المسألة لا تتصل هنا بالانتماء المذهبي والطائفي. خصوصاً أن سوريا المنهكة عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، مالياً، ومعيشياً، لا بد للإنتماء أن يتحقق فيها بقدر ما يتوفر من إنماء. هذا الإنماء السياسي والمعيشي والاجتماعي وحده الكفيل في استيلاد الانتماء لهذه السوريا الجديدة.
النظام الجديد
سقط نظام الأسد نعم. لكن الثورة لم تحقق انتصارها الكامل إلا في إعادة بناء الدولة. وكان الرئيس أحمد الشرع قد تحدث بوضوح عن الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. تلك الدولة التي يفترض بها أن تحتضن الجميع، وتساوي ما بين مختلف المكونات، وإزالة كل الفوارق أو المميزات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية التي عمل النظام السابق على تعزيزها. انتصرت الإدارة الجديدة باسم الثورة في هذه المعركة. انتهى نظام بشار الأسد، ويفترض أنه أصبح من الماضي، على الرغم من وجود مؤيدين له إما بالمعنى السياسي أو بالمعنى المصالحي أو بنتيجة الانتماء المذهبي. وهو ما يجدر بالدولة الجديدة أو الإدارة أن تعمل على إعادة جمعهم على قاعدة "لم الشمل"، والمشاركة في كل الاستحقاقات.
سقط النظام، انتصرت الثورة، ولكن ثمة نظاماً جديداً يفترض أن يولد. وهو يواجه تحديات كثيرة داخلية وخارجية، ويعاني من معاندات كثيرة، ومواجهات مع قوى داخل سوريا تعتبر نفسها متضررة من سقوط نظام الأسد، ومن تضارب المصالح الإقليمية والدولية، خصوصاً لدى الارتكاس إلى نظرية الصراع الدائم على سوريا، والذي تتداخل فيه حسابات دول كثيرة، بينما مواجهة ذلك لا تتحقق إلا من خلال تعزيز البنية الداخلية.
مع سقوط النظام أقدمت الإدارة الجديدة على "منح الأمان" لكل البيئة الحاضنة له، لكن مسار العمل لم يستكمل وفق مقتضيات تحقيق النمو السياسي القائم على التكامل، بدلاً من التنابذ. طبعاً هناك جهات لا تزال مرتبطة بالنظام السابق، وقد تدخل عليها جهات أخرى مصلحتها إعادة دب الفوضى في سوريا، لكن آلية العمل لا تكون بالنبذ أو العزل، بل في القدرة على استقطاب الحاضنة الأوسع من هذه البيئة، وتعزيز مسألة الانتماء للدولة أو الوطن، بدلاً من الانتماء إلى الطائفة أو المذهب أو العشيرة أو الملّة، التي ستصبح بكليتها تخوض حرباً وجودية لا تنتهي، وهو ما يرتكز على فتح كل خطوط التواصل والتفاهم مع أبناء هذه البيئة وغيرها، للاستعانة بهم على كيفية دمج "الملة" بالدولة، لا تركها بيئة منعزلة أو مهمشة، ولا بيئة متروكة تعمل "فلول النظام السابق" على سوقها وفق حساباتها ومقتضياتها، لا بد للدولة الجديدة أن تشكل حضناً بديلاً لهؤلاء وعدم تركهم للفلول أو لأي مجموعات مسلحة.
حوار وطني فعلي
لم يكن يجدر الانخراط في الحلّ الأمني أو العسكري وحده، ولا مواصلة معركة التهميش أو قطع الرواتب وتجميد آلاف الموظفين عن العمل. كان ذلك يحتاج أولاً إلى حلول سياسية واجتماعية. أخذت المعركة الطابع العسكري والذي يمكنه أن يتحول في أي لحظة لصراع أهلي مديد، ويمكن أن يكون قابلاً للانتشار في مناطق أخرى ومع جهات عدة. حتماً، ثمة حاجة لضبط الوضع الأمني والعسكري وإعادة تكريس الاستقرار، وفرض هيبة الدولة السورية. ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون خطة سياسية واضحة، وحوار وطني فعلي وحقيقي، وإشراك كل البنى الاجتماعية السورية في ذلك، سياسياً واجتماعياً. ثمة حاجة فعلية لطمأنة كل الخائفين من شرائح المجتمع السوري وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إقدام الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الدعوة إلى حوار وطني عام وشامل تطرح فيها كل الجهات هواجسها ومشاكلها، وتصدر عنه مقررات واضحة يتم العمل على وضع جدول زمني لتطبيقها وتحقيقها، فيشعر السوريون بأنهم شركاء وأصحاب دور في صناعة هذا المستقبل، والاستفادة من هذه الفرصة، ما دون ذلك يمكن للفرصة أن تضيع، ولسوريا أن تضيع أيضاً.
منير الربيع-المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|