الصحافة

إلى السوريين قبل الجنون الكبير: لا حل إلا بالدولة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

“ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشباب

ولو خلقت قلوب من حديد لما حملت كما حمل العذاب

ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبّة والصحاب”

(أحمد شوقي)

لسنا نحن اللبنانيّين بالمرجع الصالح لنسدي النصح للمجانين المتفلّتين في الساحل السوري اليوم، وهنا أتحدّث عن الجميع. فنحن اللبنانيّين افتعل بعضنا ببعض كما يفعل الوحوش في صراعاتهم على الطرائد والسلطة.

لكن يمكن أن نفيد السائرين على درب الجنون بنتائج جنوننا. لم نستجب أبداً عند بداية حفلة جنوننا لأيّ من دعوات التعقّل، أكانت من الداخل أو من الخارج. وفشل، وربّما يئس، كلّ المبعوثين الذين أتوا لثنينا عن التدمير الذاتي المنهجيّ، واستمعنا وطربنا فقط لمن كان يذكي نار جنوننا ويمنحنا الدعم بالسلاح والمال، وأحياناً العقائد بمختلف أنواعها، مهما كانت طبيعة شذوذها. وفي كلّ يوم كان بعضنا يظنّ أنّه انتصر على الآخر، فكان يأتي يوم آخر ليعلن المهزوم انتصاره!

هكذا دواليك بين كرّ وفرّ وأوهام الغلبة وخدمة الخير المطلق بمواجهة الشرّ المطلق، إلى أن خسرنا كلّ شيء وتربّعنا فوق ركام منزل كان عزّنا وهو يؤوينا، رافعين رايات الحزن على من فقدناهم تحت الركام، ورايات الذلّ من الفاقة والعوز، ورايات اليأس من فقدان الرجاء. وعلى الرغم من كلّ ذلك تمسّك بعض الخاسرين برفع رايات النصر!

لا يظنّنّ أحد أنّني أقصد بالهجاء أو المديح طرفاً دون آخر، فمن كان منهم بلا خطيئة فليرمِ بأوّل حجر. وسيظهر لذوي الألباب حجم اقترافاتهم وتجاوزهم الإجرامي لمنطق العيش في مجتمع، أي ليس في الطبيعة، ولا على الطبيعة والسجيّة البشريّتين اللتين خلقتهم، ذئاب تترقّب ذئاباً أخرى خوفاً على حياتها ومواردها.

هذا الخوف من الترقّب المضني الدائم، كما الحاجة إلى الأمان النسبي حتّى يتمكّن الواحد منّا من النوم، دفعا البشر – الذئاب للقبول بتسليم السلاح إلى سلطة توافقوا عليها بأنّها الدولة، وتوافقوا على قواعد سمّوها أخلاقية للعيش معاً، وتعلّموا بأنّ التوافق الأخلاقي لا ينفع لوحده من دون عقاب، فسنّوا القوانين لردع الذئب الكامن والمترقّب في حال الغفلة.

لا يهمّ هنا طبيعة الحكم، على الأقلّ في البداية، وقد يظنّ الفوضويون أنّ اللاسلطة هي الفضلى بدل تعسّف السلطة وتقييدها الحرّيات. لكنّهم بالتأكيد مخطئون، وليجرّبوا ولو لساعات غياب الدولة وأدواتها، وليروا كيف تتفلّت الذئاب، بعد أن يخلع معظم الناس رداء النعاج، ومن يبقون نعاجاً، إمّا جهلاً وتجاهلاً أو ضعفاً، سيكونون، كما قال فيلسوف السياسة الأكبر توماس هوبس، طرائد للذئاب.

الدّولة أضمن بكثير

الاستنتاج الوحيد الذي يمكن أن ننصح به جيراننا السوريين هو أنّ الدولة تبقى أضمن بكثير، على الرغم من كلّ شيء، من العودة إلى زمن “كل مين إيدو إلو”. ففي الدولة يمكن تطوير الحرّيات شيئاً فشيئاً مع الحفاظ على سلطة ردع الذئاب بعضها عن البعض الآخر.

صحيح أنّ هذه الدولة قد تتحوّل بذاتها إلى وحش، وقد تكون الثورة لإسقاط هذا النوع من الدول حتمية مهما طال الزمن، لكنّ المهمّ بعد الثورة هو العودة بسرعة إلى الدولة ومرجعيّتها، والسعي إلى تطوير توازن الحرّيات مع ردعها في ظلّ المؤسّسات القابلة للتطوّر.

لا أدّعي أنّ كلامي لا يحمل الكثير من التأويل، ولا أظنّ ولو للحظة أنّ في لبّه لا يحمل الكثير من التناقضات، لكنّني بتجربتي الشخصية في فتوّتي ظننت أنّ اللادولة أفضل من دولة لا تعجبني، لكن “من يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم” بعدما فهمت أنّ “ما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجَّم، متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً وتضرَ إذا ضرّيتموها فتضرمِ، فتعرُكّم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافا ثمّ تحمِل فتُتئمِ”، وأظنّ أنّ شعر زهير بن أبي سلمى “الجاهليّ” يصحّ اليوم كما كان يصحّ أمس وسيصحّ غداً ونحن نواجه مجانين السياسة في العالم يعودون للحرب وكأنّهم لم يقرؤوا كتاب تاريخ واحد، ولم يستذكروا، مع أنّ الذكرى تنفع، أكانوا مؤمنين أم غير ذلك.

كلّما أذكر اليوم، وأنا في عقدي السابع، أيّام ثورتي وعصياني، أستذكر أوّلاً صور الأصحاب والأقرباء ورفاق المدرسة الذين ذهبوا ضحايا لفورة الجنون، من زوايا وعيي ولاوعيي، أو من بعض صور بالأبيض والأسود ما زالت معلّقة في بهو منزل لم يخلع بعد ثياب الحِداد.

لا أحسد اليوم أحمد الشرع على الإرث الذي تنطّح لمسؤوليّة إدارته، فهو يحوي أوزاراً عصيّة على الحمل تصل إلى حدّ الاستحالة. فما تركته حرب سورية المستمرّة لعقد ونصف عقد من الموت والدمار، هو نتاج مسار كارثيّ ربّما انطلق من يوم استقلال سورية، وربّما منذ تراجع ليون بلوم رئيس وزراء فرنسا اليهوديّ عن تقسيم سورية نزولاً عند رغبة الأكثرية السنّية سنة 1936 خوفاً من انحيازها إلى هتلر الصاعد، وربّما أيضاً على خلفيّة فتاوى ابن تيميّة قبل سبعمئة سنة.

معضلات متعدّدة

لكنّ مسار سورية منذ الوحدة مع مصر، ثمّ حكم البعث سنة 1963 وحكم عائلة الأسد منذ 1970، ترك معضلات متعدّدة الأضلاع ومتشعّبة النتائج تستوجب حلّها في الوقت ذاته، في سباق مع الزمن ومع إسرائيل وإيران وتركيا وأميركا وروسيا وأهدافهم المتضاربة. هذا وعلى الشرع علاج وضع القوى التي حملته إلى السلطة، ولا أظنّ أنّه ضامن لولائها وانضباطها بشكل كامل أو حتى جزئيّ بشكل يدعو للاطمئنان. فهو بحاجة اليوم إلى تلك القوى لمواجهة قوى وازنة مدعومة من قوى إقليمية، وبيئة حاضنة ما زالت خائفة من عودة زمن الجور عليها بعدما جارت هي لعقود إلى حدّ التوحّش.

من هنا، لا أظنّ أنّ تركيبة المؤتمر الوطني السوري كانت تحمل الحدّ المقبول من البشائر للمكوّنات السورية المتمترسة وراء طوائفها وخوفها التاريخي، في مواجهة مستقبل مجهول، ووعود بالغلبة والحماية من دول تستخدم خوفها لتحقيق أهدافها بأجساد أبناء تلك الطوائف. هذا مع علمي بأنّ رئيس سورية، بغضّ النظر عمّا يعتقده أو هو مقتنع به، لم يكن بمقدوره توجيه المقرّرات بشكل يكفي لطمأنه هواجس جماعته أو الجماعات العديدة الأخرى.

من هنا، لا توجد عندي نصائح أعطيها لاجتراح لحلول، وأكتفي بعرض العوائق والمعضلات، والتمنّي على ذوي الألباب التحلّي بالحكمة في تفكيكها حبّةً حبّةً لاستيعاب وردع الجنون وأهله.

مصطفى علوش-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا