الصحافة

حرب "الفيديوات" الملعونة... هذا ما أنتجه نظام الأسد

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

إذا كانت الحرب خدعة، والأباطيل والترّهات تواطؤ ومكيدة، والتضليل خيانة، والدسائس غشّ، فليس في السؤال عن حقيقة ما جرى - ويجري - في الساحل السوري مبالغة؟ فهل الفيديوات الهابطة من كل حدب وصوب حقيقية أم مضلّلة؟ هل الدم النازف من جماجم وأجسام بلا جماجم مجرد حبر أحمر؟ وهل في صرخات الموت ولقطات طعن الأطفال والنساء والكهول و"العواء" والظلم وكلّ القرف خديعة؟ الثابت الوحيد في الحياة أن الحرب، على الدوام، ملعونة، أما الشكوك فتبقى ثابتة، حتى إشعارٍ آخر، في عالمٍ مجنون.

نداء "الدكتورة السورية" لم يبارح بالي. صوتها وهي تلهث محتضنة أطفالها قائلةً: يا ناس رجاء خلوكم معنا على المباشر. خلعوا باب المبنى ودخلوا علينا. والفصيل فيه شيشان. بترجاكم". شهدت مراراً: "لا إله إلا الله". وثّقت (قيل) آخر اللحظات. انقطع نفسنا قبل انقطاع البث: ماتت؟ قتلت؟ يا الله. أبكتنا الدكتورة، إلى حين عادت وأطلت بخبر جديد: "أنا وعائلتي أحياء". حمداً لله على ذلك. لكن، هل أصبحنا جميعاً - بكبسةِ زرٍ - ضحايا؟

الانقسام والفلول

عشرات الصفحات فُتحت في أيام تضم مئات الفيديوات، انقسم "المعلقون" عليها بين مؤيد لنظام حالي ومؤيد لفلول نظام. والتعليقات بالعربية والإنكليزية لتفهم الأمم المتحدة. فيديوات قاسية جداً. الأموات على الأرض والكاميرات في الأيادي. أكوام جثث. وابتسامات بين الجثث. هي ظاهرة كل شيء فيها مباح. لا حرمة للموت. الجثث تقلّب بين الأيادي للتصوير كما لفائف السجاد. جديدة؟ قديمة؟ حقيقية؟ إشاعات و"رغي" و"تطبيل" ولكل خبرية كذا معلومة. وسؤال للتوّ من مثقفين سوريين عبر مجموعة واتساب: يحكى عن فرار 9500 شخص عبر النهر إلى لبنان. هل هذا صحيح؟". خبر سوري تؤكده مشاهد الساحل العكاري.

نسأل "صواب"؟ نسأل "مسبار"؟ هناك مواقع متخصصة في مكافحة الأخبار والمعلومات الكاذبة. التدقيق في المعلومات ضروري. لكن، هل هذا ما يحصل بين العموم اليوم؟ أليس ترويج بعض المشاهد ضرورة اليوم وكل يوم لغايات في نفس يعقوب؟ ثمة مصورون انتشروا في كلِ العالم لتوثيق الأحداث منذ وجدت عدسة؟ ألا تتذكرون جورج سمرجيان؟ ألم تسمعوا عن ماهر عطار؟ ألا يقال الصورة أبلغ من ألف كتاب؟ التصوير توثيق لكن تغيرت كثيراً الأولويات في زمن التكنولوجيا. المصورون، قديماً، كانوا يبحثون عن "السكوب" مع الصدقية. الأدوات اليوم ما عادت تبحث عن التوثيق الصحيح بقدر ما تريد اختلاق الأحداث من خلال فيديوات كاذبة. هذا لا يعني بالطبع أن ما شهدناه غير صحيح في المطلق. ثمة مجانين في الحروب. نزقاء. وثمة ملح وبهار من كثيرين. لكن، كيف لهؤلاء أن يقفوا لالتقاط الفيديوات وهم يمشون على جثث ويقلبونها؟ ألم يسمع هؤلاء عن كيفن كارتر المصور الذي صوّر في مجاعة السودان طفلاً ينهش جسده نسرٌ؟ لاحقته لعنة الصورة حتى مماته. عاش معها وعاشت فيه. ألم يسمعوا عن المصور باتريك روبيرت الذي صوّر حرب رواندا وقطع الرؤوس - كما الفيديوات المصورة اليوم؟ عاش المصور مكتئباً. نراهن أن من يلتقطون الفيديوات اليوم لم يسمعوا بمصورين وثقوا أحداثاً وعانوا.

بين صواب وخطأ 

نبحث في "صواب" ما نراه. صواب منصة تدفع المجتمع للتحقق من المحتوى قبل نشره. بحثت المنصة في لقطة فيديو معنون: الأمن اللبناني يعتقل شاباً هدّد أطفالاً سوريين بالذبح. التدقيق في الفيديو بيّن زيفه. الفيديو قديم عمره 11 عاماً. فيديو آخر انتشر قيل إنه من الساحل السوري لإعدام رجل مسيحي بالرصاص بعد صلبه على أيدي جهاديين تابعين للجولاني، لكن البحث والتقصي بيّنا أنه يعود إلى إعدام رجل في الغوطة الشرقية في ريف دمشق عام 2015.

ماذا نصدق إذاً وماذا لا نصدق؟ "مسبار" منصة تبحث بدورها عن الإدعاءات المضلّلة. الفيديوات المفبركة، الكاذبة، الملفقة، المركبة كثيرة. والناس تتداولها وتتفاعل معها وكأنها حقيقة. لكن، هل هذا يكفي لنعدّ للعشرة قبل أن نصدق؟ نقلب بين الفيديوات ونتأثر. نبتعد عنها فتلاحقنا فيسبوكياً وتغريداً وعلى التلغرام وإنستغرام وكل غرام وسنتمتر في حسابات عمرنا. والناس تظل تتفاعل. عصابات تدّعي أنها انتقمت من جماعات. وعناصر مدججون بالسلاح يتحدثون عن فظائع يمارسونها بفخر ومباهاة. الأوضاع خطيرة ولا يختلف اثنان على ذلك. فيديوات فظيعة فتنوية يدوس فيها قتلة على من كانوا ربما قتلة. لكن القتل لا يبرر القتل. والأنكى فيديو يطالب من هم في ساحات القتال بعدم التصوير وإلا المحاسبة لكن حتى منع التصوير يُصوّر. وأفضل تعليق على كلِّها: والله تعبنا.

تعب الناس. وهذا طبيعي. ثمة فيديوات حقيقية وثمة فيديوات كثيرة ملفقة. إنها الحرب النفسية وقودها الأخبار الكاذبة، يستخدم في كثير منها الذكاء الاصطناعي. إنها فاتورة العصرنة والتكنولوجيا وحملات التضليل الممنهجة المقصودة بهدف التأثير النفسي. ثمة عناصر يبدون من "رجال الكهف" لكن بأياديهم هواتف ذكية. وهؤلاء غير مدركين أنه كلما ارتفع الهدير انخفض الذكاء.

السوشال ميديا بيت القصيد. والأصدقاء، في مواقع التواصل الاجتماعي، يتشابهون غالباً من حيث الانتماء والفكر والعقيدة. ويتراصون حتماً في الخندق الواحد في المحن. وينفرزون بين مع وضدّ. ويبدأون في "التلييك" إلى من يشبههم من دون السؤال: ما صحة ما نُشر. أصبح لا مكان للتشكيك. ويضعون "بلوكاً" سميكاً على من لا يشبههم. وهذا ما سماه الأستاذ في علم الاجتماع عبده قاعي "التنافر والتقابل". الإنسان يجب أن يتحرر ليبني حريته. الإنسان أمام سيول الفيديوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي يبقى مكبلاً في ذاكرة يرثها وسيورثها، وهذا الإنسان سيبقى حاملاً كل أوجاع ما سيصبح قريباً ذاكرة. وهذا أخطر ما نعيشه. قريباً، بعد أن تنتهي "معمعة" الحالة الفظيعة ستنضم الصور واللقطات إلى الذاكرة فتستعبدنا. سنرى الفيديوات التي تسابقنا في نشرها اليوم أمامنا غداً. السوشال ميديا ستذكرنا بها جاعلة ذاكرتنا أمامنا. وبالتالي، كلما فكرنا في التحرر من الذاكرة تعود لتنتصب أمامنا. والإنسان، في المفهوم الاجتماعي، يتأنسن حين يفك العداء مع الآخرين. فكيف نفعل في زمن السوشال ميديا والفبركات التي لا تنتهي؟ سؤالٌ صعب.

صنيعة نظام الأسد

الأشرار في هذا العالم أكثر بكثير من الأخيار. وهم، بالتأكيد، في كل الأمكنة والصفوف والفرق والنماذج والأطراف. فالفيديوات التي تنتشر اليوم تم بعضها بشكلٍ معاكس. ما فعله نظام بشار الأسد قد يكون يتكرر اليوم، وما فعله قد ينسب نفسه، في نفس الفيديو، إلى الطرف المعاكس الذي تمّ بحقّ أفراده. ثمة من يغوصون في الذاكرة وبدل أن يرمموها يردونها إلى زمن حاضر. هناك صور قيل إنها لأطفال قتلتهم قوات الأمن العام السوري لكن بعد البحث تبيّن أنها قديمة تعود لمجزرة بانياس التي ارتكبتها قوات بشار الأسد عام 2013. نفس الصور نشرت عام 2013 وعادت ونشرت اليوم من طرفين معاديين.

الصورة ضرورة للدعاية الحربية. اللاعبون يعرفون هذا. هذا ما كان منذ قديم الزمان، منذ الحرب العالمية الأولى. وقال يومها المؤرخ جورج كينان: إنها أول حرب دعائية شاملة في تاريخ العالم في ما يتعلق باستخدام الأفلام والتصوير الفوتوغرافي. مضى زمان على ذلك. كان المصورون الصحافيون يتربصون باللحظة، وكان لكثير منهم أخلاق. اليوم، في زمن الذكاء اللاإنساني أصبح الذكاء مشوهاً. فأمسك جهلة بهاتف ذكي. وأمسك اللاعبون بمادة "التوثيق" الغوغائي العبثي المفبرك. فأي توثيق تاريخي هذا؟

ما يحصل اليوم أننا ما عدنا قادرين حتى على النوم. نشاهد فيديوات ونتألم. وما عاد من يرصدون التلفيقات قادرين على دراسة كمّ الفيديوات المنتشرة. ومع كل فيديو مكيدة جديدة. والحلّ؟ فلنتذكر أولاً أن الأمم المتحدة قادرة، أو يفترض أن تكون قادرة، على التمييز بين الصحّ والخطأ. ولنتذكر أن قبح تصرفات لا يمحو قبحاً سابقاً. ويجب ألّا ننسى أن نظاماً أسدياً "عمل العمايل" بشعبه وبنا هو من أنتج كل هذا الكفر من الجانبين. فلنفكر بهذا ونحن نراجع الفيديوات. فطرفا الصراع هناك هم كبش محرقة الأسد أولاً. فكل ما نشاهده صنيعته. ونقطة على السطر. 

نوال نصر-نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا