عن اغتيال كمال جنبلاط.. اتصل سليمان تقي الدين بوليد جنبلاط وقال: قتلوه
16 آذار 2025، بعد 48 عاماً على اغتيال كمال جنبلاط سيكون يوماً جديداً في تاريخ قصر المختارة الذي شهد على تاريخ عائلة جنبلاط العتيق كحجارة ذلك القصر. هو يوم جديد لأن الاحتفال بهذه الذكرى يحصل هذا العام بعد حدثين كبيرين: سقوط النظام الذي أمر باغتياله واعتقال الرجل الذي أشرف على الاغتيال اللواء إبراهيم الحويجة. هذا العام سيكون للاحتفال طعم آخر. كل عام كان وليد جنبلاط وجماهير مؤيدة له يضعون أزهاراً على القبر، ولكن هذه المرة سيلقون عليه التحية وقد يقول له ابنه هذا حقك قد انتصر. وهذا قاتلك وقد انتهى يمكنك الآن أن ترتاح. لقد صبرنا وصمدنا وانتصرنا. ولكن ليست هذه نهاية طريق بل بداية جديدة لوليد جنبلاط الذي لا يسمح له الوقت بأن يسلم الراية ويرتاح.
الأربعاء في 16 آذار 1977، كان لقاء كمال جنبلاط مع القدر والاغتيال. في ذلك اليوم كان الضابط في المباحث الجنائية عصام أبو زكي، الذي صار لاحقاً قائداً للشرطة القضائية، وهو درزي من الشوف ومقرب من كمال جنبلاط، متوجهاً من بيروت إلى بعقلين في منطقة الشوف بمفرده، وعند وصوله إلى مفرق بلدة دير دوريت شاهد سيارة "بونتياك"، لونها أسود وأحمر، متوقفة فوق حافة الطريق ومفتوحة الأبواب، تحمل لوحة عراقية، فتساءل عن سبب وجودها في تلك الظروف الأمنية الحرجة في منطقة توجد فيها قوات سورية، تابع سيره وفوجئ عند المنعطف بوجود جثتين على الأرض إحداهما بلباس عسكري والثانية بلباس مدني، لم يعرفهما بل ربط بينهما وبين سيارة الـ "بونتياك"، وما إن أكمل سيره حتى فوجئ بسيارة كمال جنبلاط الـ "مرسيدس" التي تحمل الرقم 5888، وكان لا يزال في داخلها والدم ينـزف منه، وكانت قوات الأمن غائبة. هاله ما رآه وسيطرت عليه مشاعر الغضب والخوف في آن واحد وهو لا يدري ما حصل. فاتخذ قراراً بالحفاظ على مسرح الجريمة، وضبط الرصاصات التي تركت في المكان، واستدعى مصوراً لالتقاط بعض الصور، قبل نقل السيارة إلى المختارة.
الحاجز السوري ومسدس وليد جنبلاط
في ذلك اليوم كان وليد جنبلاط يتناول الغداء في بيروت عندما تلقّى اتصالاً من المحامي سليمان تقي الدين. قال له: "بيظهر صار شي مع المعلِّم". سأله وليد: "شو صار؟"، قال له سليمان متجهّماً: "بيظهر قتلوه".
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية والنصف بعد الظهر. فهرع إلى قصر المختارة، ليصل بعدما كانت جثث والده ومرافِقَيه قد نقلت إلى هناك وسط تجمع شعبي درزي غاضب كبير يتقدّمه شيخ العقل محمد أبو شقرا.
لم تكن علاقة وليد مع والده وثيقة. كان قد مضى أكثر من شهرين لم يقابله فيهما مقيماً في منزل فرن الحطب في وطى المصيطبة. كانت بينهما اختلافات حول كثير من الأمور. ولم يكن وليد من الفريق السياسي القريب من والده الواسع العلاقات الدولية والمحلية الذي استطاع أن يبرز بشكل كبير خلال الحرب اللبنانية وقبلها، كرئيس للحزب "التقدمي الإشتراكي" أولاً، ثم كرئيس لـ "الحركة الوطنية" متحالفاً مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وقد دخل معه في مواجهة شرسة مع رئيس النظام السوري حافظ الأسد.
عندما قال سليمان تقي الدين لوليد جنبلاط «بيظهر قاتلينوه» لم يكن يسمّي النظام السوري بالاسم، ولكن الشكوك كانت ذاهبة في هذا الاتّجاه، بحيث أنّ المقصود من "واو التجهيل" كان معلوماً ولا داعي ربّما لتسميته بالاسم. كانت الإشارة واضحة وكافية ليستوعبها وليد جنبلاط من دون أن يقولها تقي الدين ومن دون أن يكون بدأ التحقيق الفعلي في كشف الجريمة. قبل أن يصل وليد جنبلاط إلى قصر المختارة، كانت ثمة جريمة ثانية تحصل، من خلال قتل عدد من المسيحيين في قراهم انتقاماً، نتيجة الاحتقان الطائفي الذي كان حاصلاً، ومن خلال محاولة إلقاء تهمة الاغتيال على المسيحيين، وكان على وليد جنبلاط أن يعمل مع الشيخ أبو شقرا على وقف الجريمة الثانية والتركيز على الجريمة الأولى، ولكن ما حصل كان قد حصل.
صحيح أنّ وليد جنبلاط الابن لم يكن على انسجام تام مع والده، ولكنّه سرعان ما استوعب ضخامة العبء الذي سيُلقى على عاتقه. في السيارة التي انتقل فيها من بيروت إلى المختارة، كان ينقل معه مسدّساً و"بدلة" تحسباً للمناسبة الرسمية والتشييع. أوقفه حاجز للجيش السوري في الدامور. وعلى رغم أنّه عرّف عن نفسه وعن أن والده قد قُتِل، سألوه إذا كان يحمل سلاحاً وأخذوا منه المسدّس.
كان وليد جنبلاط يدرك بحدسه، كما مقرّبين من والده، أن النظام السوري يترصّد والده وأنّ هناك قراراً باغتياله يمكن أن يُنفَّذ في أي لحظة. وكانت هناك تحذيرات كثيرة تلقّاها كمال جنبلاط ولكنّه بقي يتجاهلها حتى أتت الساعة. تلك الساعة أيضاً كانت ساعة وليد جنبلاط عندما ألقى على كتفيه شيخ العقل خلال تشييع والده عباءة الزعامة الدرزية. وكان عليه أن يبدأ مساراً جديداً لم يكن قد تحضّر له من قبل، وأن يعيد قراءة سيرة حياة والده ويتعرّف عليه أكثر ويلغي المسافة التي كانت تفصل بينهما.
كان كمال جنبلاط ينتظر اغتياله لا سيما بعد أن تعرض منـزله في بيروت إلى حادث انفجار، قبل شهرين كما كانت جرت محاولة مماثلة في 26 أيلول بعد لقاء جمعه إلى رئيس الجمهورية الياس سركيس في المنطقة الفاصلة بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.
يوم الحادث كانت سيارة الـ "بونتياك" موجودة على مثلث بعقلين، قريبة من الحاجز السوري هناك، وكانت مهمتها مراقبة سيارة كمال جنبلاط إثر خروجها من المختارة، فما أن مرت سيارة جنبلاط من مثلث بعقلين حتى لحقت بها سيارة الـ "بونتياك"، ومن خلال التحقيقات تبين أنه بينما كان جنبلاط راكباً في سيارته الـ "مرسيدس" إلى جانب سائقه حافظ الغصيني، ويرافقه العريف في قوى الأمن الداخلي فوزي شديد، متجهين نزولاً من بعقلين ناحية دير دوريت باتجاه بيروت، وكانت الساعة تقارب الثانية والربع بعد الظهر، لحقت بهم سيارة الـ "بونتياك" وبداخلها أربعة مسلحين، يرتدي اثنان منهم لباساً عسكرياً مرقطاً، وبوصولهم عند منعطفات طريق دير دوريت اعترضوا سيارة الـ "مرسيدس" بعد أن تجاوزوها وأقفلوا عليها الطريق، ثم ترجلوا منها وأرغموا سائقها على التوقف واقتادوه مع العريف إلى سيارة الـ "بونتياك"، بينما صعد مسلحان إلى سيارة المرسيدس، حيث كان جنبلاط، وجلس أحدهما وراء المقود بينما الثاني جلس في المقعد الخلفي وراء جنبلاط الذي كان يجلس في المقعد الأمامي، وعلى مسافة 882 متراً بالتحديد من المكان الذي أوقفت فيه السيارة حصلت الجريمة.
بحسب ترجيحات التحقيق أنه عندما شعر جنبلاط انه أصبح في دائرة الخطر، وبما أنه في منطقته، حاول أن يلفت إليه الانتباه، فقام بتغيير اتجاه مقود السيارة، فأوقفها المسلح الذي يقودها بشكل مفاجئ فاصطدمت بها من الخلف سيارة الـ "بونتياك" التي تجاوزتها، وأطلق المسلح الذي يجلس خلف جنبلاط النار عليه ثم ترجل مع رفيقه من السيارة، وتابعا إطلاق النار عليه، كما قام الإثنان الموجودان في سيارة البونتياك بإنزال الغصيني وشديد وأطلقا عليهما الرصاص، وركب الأربعة سيارة الـ "بونتياك" ونزلوا باتجاه بيروت، وعند وصولهم إلى منعطف اصطدمت السيارة بتلة ترابية وتعطلت، فنـزل منها المسلحون الأربعة مع أسلحتهم المكونة من رشاشات كلاشنيكوف وأوقفوا أول سيارة صادفوها، وكانت سيارة فيات وفيها السائق وإلى جانبه شاب، فأنزلوا الشاب وطرحوه أرضاً وهددوه إذا تحرك فسيقتلونه، وصعدوا بالسيارة مع السائق وأكملوا طريقهم إلى بيروت حتى وصلوا إلى مكتب القوات السورية في سن الفيل عند مستديرة الصالومي.
وجد داخل سيارة الـ "بونتياك"، خنجران مسنونان وصفيحة بنـزين وبدلة عسكرية مرقطة، وجزمة عسكرية، وقد نقلت هذه الأغراض بصورة سرية إلى قصر العدل، وبحسب التحقيقات كان من المخطط له أن يُخطف كمال جنبلاط، ويقتل ويحرق مع السيارة في منطقة مسيحية لاتهام المسيحيين باغتياله.
وقد أفاد السائق الذي أقلهم، أنهم عند مرورهم على حواجز القوات السورية كانوا يبرزون بطاقاتهم فيسمح لهم بالمتابعة، وعند وصولهم إلى مستديرة الصالومي نزلوا إلى مكتب لقوات الردع السورية، وهناك قالوا له بأن يلزم الصمت، وهددوه بالقتل وتركوه ينصرف.
حكاية السيارة
سيارة الـ "بونتياك" كانت مضبوطة من الجمارك اللبنانية في مرفأ بيروت في الثامن من كانون الثاني 1977، وتبين أن في مخابئها كمية من حشيشة الكيف المخدرة، وبينت التحقيقات أنها نقلت إلى سوريا ثم أعيدت إلى لبنان من طريق الحدود اللبنانية – السورية في 10 آذار 1977، وعليها لوحتها العراقية، وذلك قبل ستة أيام من تاريخ الاغتيال، وقد شوهدت في بيروت في أماكن عدة، إذ كان المسلحون الأربعة يستقلونها، وكانت تتوقف أمام فندق "لورنـزو موزارت" الذي كان الأربعة من نـزلائه، وهذا الفندق كانت تستخدمه المخابرات السورية.
باشر التحقيق الفوري في قضية الاغتيال القاضي سعيد ميرزا، وكان مدعياً عاماً في جبل لبنان، وبعد إحالة الجريمة إلى المجلس العدلي أعلى هيئة قضائية في لبنان، عُين القاضي حسن قوّاس محققاً عدلياً، ولكنه تعرض للتهديد أكثر من مرة ولمحاولة خطف، ثم أُطلقت قذيفة صاروخية على منزله فأحرقته وجرحت ابنه.
لم يكمل القاضي قواس التحقيق، على رغم تكوين صورة كاملة عن مجريات عملية الاغتيال والضالعين فيها والمحرضين عليها في ظل وجود الجيش السوري في لبنان، وتحكمه بالقرارين السياسي والقضائي ما منع إصدار القرار الاتهامي، وطوي الملف نهائياً قبل أن يسقط وليد جنبلاط حقه، وقبل أن يتقرر لاحقاً إسقاط الدعاوى والملاحقات الجزائية والكف عن التعقبات واسترداد المذكرات الصادرة وحفظ الرسوم والمصاريف. التحقيقات كانت توصلت إلى تحديد هويات المسلحين الأربعة وهوية الضابط السوري إبراهيم الحويجة المشرف على العملية، وكان مسؤولاً عن مكتب المخابرات السورية في سن الفيل، حيث لجأ المسلحون بعد ارتكابهم لجريمة الاغتيال.
وليد جنبلاط ولقاء من اغتالوا والده
في الرابع من أيار 2015 مَثُل وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري في لاينسدام في هولندا وقال في إفادته: "علاقتي مع النظام السوري بدأت عام 1977 بعد الأربعين من اغتيال كمال جنبلاط على يد النظام السوري، وأمام الخطر المحدق بلبنان الذي كان يتعرض إلى مؤامرة كان لا بد لي أن أوقع اتفاقاً سياسياً مع من اغتالوا والدي".
وأضاف: "المرحوم حسن قواس قام بالتحقيق بمقتل كمال جنبلاط وتفاصيل السيارة التي لحقت به وكيف قتلوه على مشارف قرية بعقلين، وكيف ذهبت تلك السيارة إلى مركز المخابرات السورية في سن الفيل، ولكن القضية حُولت كسائر الجرائم السياسة الكبرى إلى المجلس العدلي الذي لا يستطيع أن يبت مثل هذه القضية في خلال الوصاية السورية على لبنان، وكان هناك خوف منها".
بعد اعتقال الحويجة ثمة انتظار لما يمكن أن يقدمه من معلومات متعلقة بقضية الاغتيال، وإن كان لا رهان على أنه قد يضيف شيئاً جديداً على ما هو معروف في ضوء عدم تشكيل هيئات قضائية سورية جديدة تتمتع بالقدرة على القيام بتحقيق موضوعي. مع احتمال أن ينفي مسؤوليته عن العملية أو أن يتم إعدامه مثلاً من دون الدخول في تفاصيل هذه القضية لأنه ارتكب جرائم كثيرة غيرها في خدمة النظام. وثمة انتظار أيضاً لما سيعلنه وليد جنبلاط في هذه المناسبة السنوية في 16 آذار 2025 في قصر المختارة غير شعار "صبرنا وصمدنا وانتصرنا".
نجم الهاشم-نداء الوطن
شاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|