لا حيّة ولا ميتة... مؤسسات رسمية انتهت صلاحيتها
المجلس الأعلى اللبناني السوري، الصندوق المركزي للمهجرين، مصلحة سكك الحديد، تلفزيون لبنان، المؤسسة الوطنية للاستخدام، غيض من فيض المؤسسات الرسمية التي تحوّلت إلى هياكل فارغة تفتقر إلى الفعالية والإنجازات. مجالس وصناديق وهيئات استشارية أصبحت مجرد مؤسسات وهمية تستنزف موارد الدولة من دون أن تقدم الخدمات المطلوبة التي أنشئت من أجلها. فساد، محسوبيات، سياسات خاطئة غيّبت دور هذه المؤسسات وأفرغتها من صلاحياتها التنفيذية فتحجّرت في مكانها جامدة فلا هي حيّة ولا ميتة.
مجلس الوزراء تحرّك وأعدّت رئاسته مشروعاً لإعادة هيكلة المؤسسات العامة بكل مسمياتها من هيئات ومجالس ولجان لإلغاء بعضها ودمج بعضها الآخر وتطوير ما يمكن تطويره بينها. لكن كمواطنين معنيين بدفع الضرائب والحصول على الخدمات ماذا نعرف عن هذه المؤسسات الرسمية ودورها وتمويلها؟ وما الأبرز الذي يثير سخطنا وتهكّمنا بينها؟
في تعريفها، المؤسسات العامة هي وسيلة قانونية لجعل خدمة المواطن أكثر فعالية، وهي في المبدأ أقرب إلى القطاع الخاص في أدائها مما هي للوزارات. وهي إدارات مستقلة عن الوزارات تتمتع باستقلال إداري ومالي وتديرها مجالس إدارة، وتتولى وظائف خاصة مثل الهيئات الناظمة والهيئات الرقابية والمؤسسات العامة الإدارية أو المؤسسات العامة الصناعية والتجارية التي تنتج سلعاً وخدمات مثل كهرباء لبنان ومصلحة سكك الحديد. عدد هذه المؤسسات على اختلاف تسمياتها ووظائفها يفوق الـ 140 مؤسسة عامة معظمها يتمّ تمويله من قبل الدولة وبعضها الآخر يتمتع بتمويل ذاتي عبر مداخيله مثل المستشفيات الحكومية. لكن لو سألنا المواطنين عنها فإن بضعة أسماء عالقة في أذهانهم يتساءلون عن جدوى بقائها؟
سقط النظام وبقي المجلس
يحتل المجلس الأعلى السوري اللبناني طليعة المؤسسات التي تخطتها الأحداث السياسية وما عاد لوجوده داعٍ لا سيما بعد سقوط النظام السوري الذي كان أحد الطرفين الموقعين على إنشائه ضمن ما عرف حينها بـ "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية" التي تم توقيعها في دمشق في العام 1991. وكان قد سبق للنائب غسان مخبير في العام 2010 أن تقدم بكتاب إلى الرئيس ميشال سليمان يعرض فيه أبرز المخالفات التي اعترت تلك الاتفاقية راجياً منه تعديلها وبخاصة إلغاء الأجهزة الدائمة المنشأة بموجب هذه المعاهدة، لا سيما المجلس الأعلى والأمانة العامة لمخالفتهما الدستور. جعلت المعاهدة من المجلس الأعلى هيئة تقريرية في عدد كبير من القضايا الخطيرة والمصيرية وجعلت قرارته إلزامية ونافذة المفعول في البلدين، كما جعلت أعضاء المجلس اللبنانيين لا صفة تقريرية لهم في ظل النظام الدستوري اللبناني، إذ وحده رئيس الجمهورية يتمتع بصلاحية المفاوضة في المعاهدات الدولية وفقاً للدستور.
إذاً، من الأساس، المجلس الأعلى السوري اللبناني مخالف للدستور ولزوم ما لا يلزم. فكيف بالأحرى اليوم وقد بات في موت سريري ولا يزال يكلف الدولة أموالاً تذهب كلها هدراً وإن اختلف تقدير قيمتها.
الصندوق المركزي للمهجرين من جهته، أدى قسطه للعلا ودخل مرحلة التقاعد الوظيفي لكنه لا يزال على جداول الحكومة ومن يدخل إلى موقع الصندوق الإلكتروني يجد أن آخر إنجازاته كان إقرار آلية دفع المساعدات لجميع المناطق اللبنانية المتضررة من حرب تموز 2006 ووضعية الشيكات العائدة لهذه الحرب. أما سوى ذلك من مشاريع وإنجازات ومستجدات فيصعب الدخول إليها كون الصفحة "غير متوافرة حالياً" ما يؤشر بشكل واضح إلى توقّف عمل هذا الصندوق الذي كان يجب أن ينتهي رسمياً مع انتهاء ملفات التهجير. وبالفعل يأمل وزير المهجرين الحالي كمال شحادة، كما أملت قبله الوزيرة غادة شريم عطا، أن يكون آخر وزير للمهجرين في لبنان وأن تضاف إلى مهمته الوزارية مهمة التحول الرقمي في الإدارة اللبنانية.
تطول لائحة المؤسسات العامة غير المنتجة، لكن في حين تنتفي الحاجة إلى بعضها - ولا بد من إلغائها - يمكن لبعضها الآخر أن يلعب دوراً اساسياً في خدمة المواطن إذا ما تم تفعيله وتطويره أو دمجه ضمن الوزارات المعنية لتقليل الكلفة وزيادة الفعالية. والمعيار ليس فقط كلفة المؤسسة على الحكومة بل الوظيفة والخدمات التي يمكن أن تؤديها للمواطن. وتقييمها يجب أن يكون على ضوء حاجة المواطن إليها. وأبرز مثال على ذلك "المؤسسة الوطنية للاستخدام". فهذه المؤسسة وجدت لتلبي حاجة وتساعد المواطنين على التوظف ضمن كفاءاتهم. لكن، على الرغم من أهمية دورها، تمّ تغييبها عمداً لأسباب عدة. فغيابها جعل الأحزاب تتحول إلى مكاتب للتوظيف ودفع بكل نائب للسعي لإيجاد وظائف للناخبين والمقربين، الأمر الذي ساهم في تفعيل مفهوم الزبائنية وتقويض دور المؤسسات الرسمية. وفي حين تمت محاربة هذه المؤسسة من قبل السياسيين والأحزاب، فإن الحاجة إلى مؤسسة مماثلة أوجدت "لابورا" وهي مؤسسة خاصة نشأت لتكون صلة الوصل بين المواطن والوظيفة.
المثال الثاني الذي يظهر عجز الدولة عن التعامل مع مؤسساتها بشكل فعال ومنتج هو "مصلحة سكك الحديد". الإسم يثير التهكم والسخرية. لكن، في الواقع، المصلحة لا تقتصر على سكك الحديد والقطارات التي انقرضت بل تشمل النقل المشترك. في المبدأ يمكن لهذه المؤسسة أن تكون من بين الأهم والأبرز في الدولة كونها قادرة على تقديم خدمة ضرورية للمواطن ودفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام. مصلحة سكك الحديد التي بقيت لوقت طويل خارج الخدمة بدأت تستعيد نشاطها مع إشرافها بشكل مباشر على شركة الأحدب التي تتولى تسيير باصات النقل المشترك المستحدثة. وبحسب رأي مهندس السير زاهر مسعد "لا يجب إلغاء مصلحة سكك الحديد بل تمويلها تمويلاً سليماً لتطوير وإعادة تفعيل شبكة سكك الحديد في لبنان وتطوير النقل المشترك". قانونياً، يقال "إن الخطأ ليس في وجود مصلحة سكك الحديد بل في عقم السياسات العامة التي تستمر في تهميش دورها بدل تحويلها ألى إحدى كبريات المؤسسات الرسمية لتلعب دوراً رئيسياً في النمو الاقتصادي للبلد، خصوصاً أن كل عمل صناعي أو تجاري يجب أن يوكل إلى مؤسسة عامة لا إلى وزارة".
إلغاء أم تطوير؟
في المشروع الوزاري المقترح مؤسسات عديدة سيتم العمل على إلغائها أو دمجها وإعادة النظر فيها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل العيب في هذه المؤسسات وسوء إداراتها أم في سياسة التهميش والفساد والجمود الإداري التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة؟
أمثلة عدة يمكن إيرادها لتبيان ما تقدم. "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" التي كان يمكن أن تتحول إلى أداة قيمة يحتاجها لبنان لاستئصال الفساد من مختلف مرافقه لم تعط الإمكانيات اللازمة لتقوم بدورها. لا بل إن الدولة الفاسدة كانت تعرقل قيامها بعملها حيث منحتها الصلاحيات لكنها لم تعطها الإمكانيات فيما هي مطلب ضروري واستثمار ناجح لا بد أن يحتل الأولوية في سلم التمويل والاهتمام. فتطوير قدرات مكافحة الفساد لا يقل أهمية عن تطوير القدرات الأمنية.
الدعم الغائب
"الهيئة الوطنية للمفقودين" التي أنشئت لتلعب دوراً وطنياً وإنسانياً يساهم في تنقية الذاكرة وتخليصها من آثار الحرب الأهلية وسواها من حروب وتجاذبات المنطقة. الهيئة التي ولدت لتكون مرجعاً لأهالي المفقودين والمخفيين قسراً يتقفى أثرهم ويعيد رفاتهم ويجري فحوصات الحمض النووي حتى لا يضيع أثرهم، كان من المفترض أن توليها الحكومات كل الدعم المالي والمعنوي والقانوني والسياسي، لكنها وجدت نفسها تكافح وحيدة في حين أنها لا تكلف الدولة مبالغ تذكر إلا من خلال راتب رئيسها.
أين دعم "الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان" التي أنشئت لتعمل على حماية حقوق الإنسان وتعزيزها في لبنان وفق المعايير الواردة في الدستور اللبناني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولتبدي الرأي في كل ما تستشار به وتتلقى الشكاوى والإخبارات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، وتساهم في معالجتها؟ ومعلوم أن ضمن الهيئة تعمل "لجنة الوقاية من التعذيب" على حماية حقوق الأشخاص المحرومين من حريتهم والدخول إلى جميع أماكن الحرمان من الحرية في لبنان دون أي استثناء، وذلك بهدف حماية الأشخاص المتواجدين فيها من التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ومن التوقيف التعسفي والتعاون مع السلطات المختصة لأجل تفعيل وتطوير القوانين والأنظمة المتعلقة بهؤلاء. لكن أين دور هيئة حقوق الإنسان ولجنة الوقاية من التعذيب اليوم؟ وهل تمنحها الحكومة ما يكفي من سلطة ودعم لتقوم بالواجبات الإنسانية السامية التي نشأت من أجلها؟
وبعد، ماذا عن تلفزيون لبنان الذي تخبط لأعوام طويلة، يعاني من العجز عن تعيين مدير عام له بفعل التجاذبات السياسية، والذي تراجع دوره الإعلامي إلى أقصى ما يكون بعد أن كان رائداً في الشرق؟ أليس الأجدى أن يدمج مع إذاعة لبنان والوكالة الوطنية في مؤسسة وطنية إعلامية شاملة؟ وماذا عن المكتبة الوطنية على أهمية دورها؟ من يسعى إلى ترسيخ دورها الثقافي ودمجها ضمن رؤية ثقافية شاملة تمتد على مساحة الوطن؟
مؤسسات مؤسسات... أوجدتها الحكومات المتلاحقة ومن ثم نستها. لا متابعة، لا مراقبة، لا تقييم لإنتاجيتها. فهل الحل بإلغائها كلها أم بتطويرها وتغيير تركيبتها لتصبح منتجة وفعالة؟ أو ربما يكون الهدف خصخصتها ووضعها في يدي القطاع الخاص بعيداً من رقابة الدولة؟
زيزي إسطفان - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|