بلديات لبنان في "زنقة" فلا تُسرفوا في الوعود الانتخابية
إذا أردنا أن نعرف مدى قابلية الوعود الانتخابية للتحقيق، علينا أن نعرف أولاً ماذا في صناديق البلديات وكيف تدار ميزانياتها. المعادلة بسيطة وموضوعية، وتنطبق على مجمل بلديات لبنان. قد تختلف أرقام موازناتها، إلا أن ركيزة عملها واحدة، وقائمة على طرح المشروع وتحديد كلفته أولاً، ومن ثم على توفير الموارد التي يحتاجها. وإذا كانت حالة الإفلاس في البلديات، الكلي والجزئي، أمراً واقعاً لا يمكن نكرانه، فتصبح الانتخابات واجباً دستورياً، لا بد أن تضخ الحيوية في شرايين مجالس مدد لها ثلاث مرات متتالية. لكن حذارِ الوعود “الفضفاضة” التي قد يصطدم المنتخَبون بعدم قدرتهم على تحقيقها، فتتحول بالنسبة لناخبيهم وعوداً فارغة.
1065 هو العدد الإجمالي للبلديات التي ستشهد انتخابات على ثلاث مراحل متتالية في شهر أيار. نحو نصف هذه البلديات انهارت قيمة مخصصاتها من الصندوق البلدي المستقل والتي لا تتجاوز الـ 250 مليون ليرة، إلى نحو ثلاثة آلاف دولار تقريباً، وفقاً لإحصاءات الدولية للمعلومات. هذا في وقت باتت حصة البلديات الكبرى من هذا الصندوق، مجرد فتات من ميزانياتها التي حلقت إلى مئات مليارات الليرات. أما الوفر فيكاد يكون معدوماً في معظم صناديق البلديات الخاصة. وهذا ما يضع المجالس المنتخبة في السنة الأولى من استلامها مهامها، في مواجهة مع تداعيات الأزمة المالية المستمرة، لتفرض على تقليعتها ميزانية المجالس السابقة، والمفصلة في معظمها على قياس تأمين نظافة المدن ومعالجة نفاياتها، بالإضافة إلى دفع رواتب الموظفين. مع تطلع لأن تترافق ولاية المجالس التي ستمتد ست سنوات، مع إصلاحات تعيد التوازن المفقود سواء في ماليات البلديات أو في آليات عملها وكوادرها الوظيفية. فماذا عن نفقات البلديات ووارداتها؟ وما هو حجم الوفر في صناديقها، وبأي كوادر بشرية تدار البلديات؟
بين الطموحات والعجز… الصدمة آتية
ثلاثة نماذج اختارتها “نداء الوطن”، تشعبت إجابات رؤساء البلديات من خلالها، نحو تسليط الضوء على حجم الضغوطات التي تعانيها، والتي لا بد أن تخلف تداعياتها على أولى خطوات المجالس المنتخبة في المرحلة المقبلة.
يجمع رؤساء بلديات مدن كبرى كما البلديات الصغرى على أن نحو ستين في المئة من وارداتهم تنفق في سبيل تسديد رواتب الموظفين التي على رغم تدني قيمتها بالنسبة للموظف، تضخم حجمها بالنسبة لميزانية البلديات. هذا في وقت فتح قرار الحكومة بمنع التوظيفات في القطاع العام منذ عام 2019، باب التدخلات السياسية في تمرير عقود وظيفية حرة، شكلت امتيازاً للبلديات المدعومة، لكنها أتخمت بلدياتها بما يفوق إمكانياتها المالية، فكان ذلك عاملاً من عوامل إفشالها وفقاً لما يقوله محمد أيوب رئيس جمعية “نحن” التي عملت على تنظيم ورش عمل عديدة ناقشت شؤون البلديات وسبل تطوير عملها. في مقابل عرقلة ملفات بلديات أخرى، فرغت كوادرها، وكان ذلك أيضا سبباً من أسباب فشلها الذي أدى إلى حلها، وفقا لما يشكو منه محافظون انتقلت إليهم مسؤوليات إدارتها.
يشكل قصور البلديات على أبواب انتخاباتها مادة استثمار دسم في السباق الانتخابي إلى مجالسها. ولكن “تكبير حجر الوعود” لن يكون صحياً في الحفاظ على مصداقية المنتخَبين، من هنا يكاشف رئيس بلدية المختارة واتحاد بلديات الشوف روجيه العشي المتحمسين لخوض المعركة “بأن صدمتهم وناخبيهم ستكون كبيرة متى تسلموا المهمة”.
بالنسبة لأيوب “ليست المشكلة في الوعود. فهي تبقى دون حجم صلاحيات البلديات الحقيقية. وهذه الصلاحيات ترتبط بكل منفعة عامة بيئية، صناعية، زراعية، اجتماعية، ثقافية، ديموغرافية وغيرها”. إلا أنه في ظل الواقع الاقتصادي الذي يعيشه لبنان “تبقى العين بصيرة واليد قصيرة” وهذا ما يجعل الموازنات الموضوعة لإدارتها مجرد التفاف على مالياتها لتأمين صمودها ولو بالحدّ الأدنى.
بلدية طرابلس: أزمة عملاقة
بلدية طرابلس ثاني أكبر مدن لبنان، تشكل نموذجاً جيداً لما طرح. عبء بلديتها المالي الكبير، يدفع برئيس مجلسها الحالي رياض يمق إلى مكاشفة صريحة، بأن كل الوفر المحقق في صندوقها، لا يغطي كلفة رواتب الموظفين لشهرين. ينتقد يمق البيروقراطية والمركزية الحادة التي منعت البلديات حتى من محاولة إنقاذ أموالها المدخرة قبل الأزمة، سواء عبر تبديلها بدولارات أو شراء العقارات.
600 موظف في بلدية طرابلس. وهي بالتالي أكبر بلدية من حيث كادرها البشري. ونصف الكادر من الشرطة، بينما نصف عددهم تخطى سن الـ 55 وبالتالي فإن نطاق البلدية الواسع يتطلب مزيداً من التوظيفات. وانطلاقاً من هنا انصبت جهود البلدية في موازنة عام 2025 على تأمين رواتب الموظفين، بعد أن حددت ميزانيتها بـ 600 مليار ليرة، 300 منها تذهب مباشرة لتسديد الرواتب، و300 تتضمن نفقات أساسية أخرى ومن ضمنها اشتراكات الضمان الاجتماعي ورسوم الطبابة والاستشفاء وبعض المصاريف التشغيلية والأعمال الطارئة كتنظيف المجاري أو سد جور وغيرها. من هنا لا يعِد رئيس البلدية بأي وفر في صندوق البلدية، لكنه على الأقل كما يقول “سيسلم المجلس المقبل مدينة خالية من العشوائيات التي بوشر بإزالتها بعد ثلاثين سنة من غض النظر عنها”.
بلدية زحلة في “زنقة”… والتوازن على الحافة
منذ عام 2019 تعمل البلديات بموازنات افتراضية، تتوقع مشاريع، تبقى ترجمتها عملياً محفوفة بمعوقات، أبرزها ما يتعلق بالقدرة على تأمين واردات موازية فعلياً لنفقاتها. وعليه يقول رئيس بلدية زحلة أسعد زغيب “إن هذا الواقع حتم علينا أن نتقشف بنفقاتنا كما كل عائلة تمر “بزنقة””.
أربعة وأربعون مليار ليرة كانت ميزانية بلدية زحلة عام 2019، وهي ارتفعت حالياً إلى ما يفوق الـ 800 مليار ليرة أي نحو عشرين ضعفاً. إلا أن مبدأ الحفاظ على توازنها المالي، حصر نفقاتها بتسديد رواتب الموظفين، وتأمين الإدارة السليمة للنفايات، خصوصا في المطمر الصحي ومعمل الفرز التابع له.
تجنّب التوظيفات الفضفاضة لم يكن خياراً بلدياً فقط، إنما أيضا لكون البلدية حيّدت إدارتها عن التدخلات السياسية، حتى لو كسبت عداوتها. إلا أن كادرها الوظيفي، شغر في ثلاث دوائر أساسية بسبب تقاعد موظفيها، وهي الدائرة المالية، الدائرة الإدارية والدائرة الفنية، علماً “أن النقص في الكادر الوظيفي ببلدية زحلة يصل وفقاً لزغيب إلى 50 في المئة، والمطلوب برأيه ملأه بالكفاءات لا بالمحسوبيات من ضمن امتحانات شفافة تجرى عبر مجلس الخدمة المدنية”.
يتحدث زغيب في المقابل عن وفر في خزينة البلدية التي سيتسلمها المجلس المقبل مع 135 مليار ليرة. ولكن لا تغالوا بالتفاؤل، فكلفة معالجة طن النفايات في مطمر زحلة الصحي، من دون احتساب كلفة استعادة مبالغ الاستثمار تتراوح بين 35 و40 دولارا. ويصل مجمل الكلفة النهائية لإدارة هذا المطمر مع تأمين نظافة المدينة من كنس وجمع ونقل إلى 137 مليار ليرة سنوياً.
“المختارة” الوفرة استثناء لا قاعدة
لا يختلف هذا الواقع طبعاً في بلديات لبنان الأخرى، وبحسب روجيه العشي فإن معظم صناديق بلديات الاتحاد مفلسة وكذلك كوادرها الوظيفية. من هنا يستنتج “أنه على الرغم من تحمل البلديات مسؤوليات الدولة في كافة الميادين الخدماتية والإنمائية منذ بدء الأزمة المالية، فهي ليست مؤسسات بالمعنى الفعلي. فبعض البلديات يدار من خلال رئيس البلدية والشرطي البلدي وحده، وبعضها بالكاد فيه موظف أو اثنين. وبالتالي بقيت البلديات واقفة على رجليها بفضل جهود رؤسائها، وتوظيف الخبرات والعلاقات في المصلحة العامة”.
يبدو العشي مرتاحا لكون بلديته “المختارة” من بين بلديات قليلة ستترك وفرا بمبلغ 800 مليون ليرة في صندوقها، وقد جمع هذا المبلغ بجهد شخصي، إلى جانب تفاعل أبناء بلدته معه، وهذا ما سمح بفرض ضرائب إضافية فاقت معدلات الزيادة التي أقرت من ضمن ميزانية عام 2024 على رسم القيمة التأجيرية. فهل تستمر “قبة الباط” هذه للمرحلة المقبلة؟
الجباية بالليرة والنفقات بالدولار: وصفة مضمونة للعجز
ضاعفت موازنة عام 2024 رسوم القيم التأجيرية عشر مرات للوحدات السكنية وخمسة عشر ضعفا لغير السكنية، لكنها بحسب رؤساء البلديات لم تأت سوى بحل ترقيعي لماليات البلديات. وهي برأيهم لم تواكب حجم التضخم الذي حصل، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من المنازل مكلف بالأساس بمبالغ صغيرة.
يشرح زغيب، أنه في زحلة مثلاً هناك 45 في المئة من البيوت التي لم تكن تدفع أكثر من 30 ألف ليرة سنوياً وذلك كان يوازي الـ 20 دولارً سابقاً. مع مضاعفة الرقم عشر مرات، بقي دون الحد الأدنى المسموح به لقيمة التكليف، لذلك رفع المبلغ إلى 600 ألف ليرة، أي ما يوازي سبعة دولارات فقط.
“المشكل الكبير الذي أوقع معظم البلديات في عجز “هو في أن معظم جباية البلديات هي بالعملة اللبنانية بينما نفقاتها بالدولار، وهنا تبرز الهوة الكبيرة في ميزانيات البلديات” وفقا لمحافظ البقاع كمال أبو جودة.
هذا في وقت يجمع رؤساء البلديات على أن الدولة لم تبذل جهداً لتحسين مداخيل البلديات. حتى أن وعودها بتمكين البلديات خلال فترة التمديد لها، بقيت حبراً على ورق. فتخاذلت عن تأمين تغطية قانونية لتحصيل نفقات معالجة النفايات على قاعدة “الملوث يدفع” العالمية، فبقي هذا الطرح قيد الدرس طيلة فترة الأزمة المالية. وهي أيضاً صمت آذانها على مطالبات البلديات بتعديل قيمة المبالغ المستحقة لها من الصندوق البلدي المستقل بما يتناسب مع الارتفاع الكبير لسعر الدولار، فاستمرت بتسديد آخر المبالغ المستحقة عن عام 2022 على تسعيرة 1500 ليرة للدولار. بالمقابل أعفت السلطة المركزية المكلفين من موجب الاستحصال على شهادة “براءة الذمة” التي تمنح من البلديات، فحرمت البلديات من فرصة إلزام المكلفين بتسديد مستحقاتهم قبل الحصول على هذه الشهادة.
حلول مرحلية… لا أرض صلبة
الإيجابية التي سادت خلال هذه المرحلة، كانت في مسارعة المكلفين لتسديد المتأخرات مع غراماتها إثر انهيار قيمة الليرة، بالإضافة إلى فورة البناء التي زادت عدد رخص البناء المطلوبة من البلديات، وهذا ما أمن موارد سمحت للبلديات بتغطية نفقاتها الأساسية، لكن كل هذا لم يحقق لها التوازن المالي المستدام الذي يسمح بوضع المشاريع والرؤى المستقبلية لتطور المدن.
إنطلاقا مما ذكر يعتبر زغيب أن المهمة الأساسية للمجالس المقبلة ورؤسائها، يجب أن تكون إعادة التوازن المالي للبلديات، وهذا يتحقق من خلال إجراء تخمينات جديدة للوحدات السكنية، تؤمن العدالة بين المواطنين في تسديد رسوم القيم التأجيرية، وترفع هذه الرسوم إلى مستوياتها الموضوعية، وإنما بشكل تصاعدي لا يلقي عبئاً كبيراً على كاهل المواطنين. وإلا كما يقول زغيب “سيبقى الواقع على ما هو عليه وستبقى البلديات دون مستوى طموحات أبنائها”. معولاً على العقلية الإصلاحية التي انطلق معها العهد الجديد.
التشاركية في تذليل البيروقراطية
غير أن المال ليس وحده ما يحجّم طموحات البلديات، وإنما أيضا بيروقراطية معقدة تصادر صلاحيات البلديات، وتحاول تقليصها من خلال لامركزية حادة، تمارسها السلطة السياسية، في محاولة لإبقاء البلديات تحت عباءتها. والسبب كما يقول أيوب “أن الطبقة السياسية تخشى أن تتحول البلدية مصنعاً لقيادات سياسية جديدة، لذلك تتجنب تقوية المؤسسات، وتسعى لإبقاء خدماتها محصورة بيد الزعيم”.
مع أن معظم الناس واعون لهذه الحقيقة فإن ذهنية “أي عائلة أكبر من الثانية ومَن زعيمه أقوى” لم تتبدل في إدارة المعارك الانتخابية في معظم القرى والتنافس ليس على الخدمة فعلياً” وفقاً لما قاله العشي. وهذا ما يعزز فرص وصول العناصر غير الكفوءة إلى المجالس، ويرسخ القناعات بالتالي بأن الوعود لن تكون بالضرورة صادقة.
هذا الواقع وفقا لأيوب “يتطلب وعياً أكبر من المجتمعات الناخبة، لإيصال مجالس بلدية موثوقة بسمعتها ورغبتها التشاركية مع المجتمع، هذه التشاركية أساسية في تذليل العقبات والبيروقراطيات، شرط ألّا يعتبر الناخب أن مهمته تنته عند وضع صوته في صندوق الانتخابات”.
في المقابل يشدد محافظ البقاع كمال أبو جودة على أهمية تطور بعض المعايير بما يحمي البلديات من مخاطر الفشل. إذ لا يجوز برأيه أن تكون بلديات العام 2025 خاضعة لقانون وضع منذ عام 1977 وعدل – منذ ذاك الحين – مرة واحد، وهو لا يشترط بالمرشح سواء لعضوية المجلس البلدي ورئاستها أو للمخترة مثلاً، سوى أن يكون ملماً بالقراءة والكتابة، بينما سائر القوانين التي ترعى شؤون البلديات وشفافيتها كقانون الشراء العام، في تطور مستمر وتتطلب فهماً واستيعاباً يفوق قدرة من يقرأ ويكتب فقط.
الورشة كبيرة أمام البلديات، كذلك التحديات. وفي ظل الانهيارات المالية التي يعانيها لبنان يعتبر أيوب “أن الأولية المشتركة للمجالس المنتخبة أيا كانت مشاريعها، يجب أن تبقى في الحفاظ على الإنسان والأرض وقيمتها الإجتماعية والثقافية والإقتصادية”. من هنا دعوته إلى” أن يكون للمدن مخططات توجيهية تضمن استخدام الموارد في التنمية المحلية. وعندما يصبح لدى البلديات هذا الوعي في فهم قيمة الأرض وقيمة الإنسان، فإن مشاريعها ستصب حتماً في مصلحة مدنها، وهذا أفضل مشروع يمكن أن تنجزه أي بلدية”.
لوسي بارسخيان - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|