"Graphite" حين تتحوّل هواتفنا الى ساحة حرب ناعمة!
لم نعد في زمن يُمكن فيه للاطمئنان أن يستوطن قلوبنا الرقمية. لقد سقطت أقنعة الأمان التي لطالما اختبأنا خلفها، ظنًا منّا أن تشفير التطبيقات كافٍ لحمايتنا من العيون المتلصصة. الحقيقة أننا صرنا عراة، تمامًا، أمام عدو يتقن فن التلصص والاختراق. ولعل أخطر ما تكشف عنه السنوات الأخيرة هو أن الخطر لا يأتي فقط من الحروب على الأرض، بل من حروب لا تُرى ولا تُسمع: حروب الذاكرة، البيانات، والكلمات العابرة عبر تطبيقات الهواتف.
وسط هذا الواقع، برز اسم تطبيق تجسسي مخيف: Graphite أداة استخبارية رقمية طورتها شركة "Paragon" الإسرائيلية، وهي شركة حديثة العهد من حيث التأسيس، ولكنها شديدة العراقة من حيث البنية الاستخباراتية. تأسست هذه الشركة عام 2019 على أيدي مجموعة من الضباط السابقين في وحدة 8200، وهي وحدة يُقارنها البعض بوكالة الأمن القومي الأميركية NSA، لما تمتلكه من قدرات خارقة في التنصت وجمع المعلومات.
لكن ما زاد الطين بلّة هو أن أحد أبرز داعمي ومؤسسي "Paragon" ليس سوى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، المعروف بتاريخ طويل من العمليات العسكرية. تخيّلوا إذًا إلى أي مدى يُمكن لهذا البرنامج أن يُستخدم كأداة عدوان لا تقل فتكًا عن الصواريخ، بل ربما تفوقها أذية لأنها تخترق دون أن نشعر، وتتسلل دون ضجيج، وتخطف منا ما هو أعمق من الجسد: خصوصيتنا، أسرارنا، وحتى دواخلنا.
وفق تقرير نُشر في صحيفة The New York Times في أيلول 2023، فإن برنامج "Graphite" قد تم تسويقه كأداة مخصصة للحكومات فقط، ويُستخدم في "محاربة الجريمة والإرهاب". لكن من يضع تعريف الإرهاب؟ ومن يقرر من هو العدو؟ عندما يكون العدو نفسه هو من يطور الأداة، فهل يمكننا أن نطمئن إلى نياته؟
في تقرير آخر نُشر عبر موقع TechCrunch، تبيّن أن "Graphite" يستخدم آلية "zero- click" أو "الاختراق دون تفاعل"، أي أن المستخدم لا يحتاج حتى إلى فتح رابط خبيث كي تُخترق بياناته. يكفي أن تحمل الهاتف وأن تكون متصلًا بشبكة الإنترنت، حتى تصبح مستهدفًا. فالرسائل، الصور، الفيديوهات، المحادثات الصوتية، المواقع الجغرافية، كلها تُسحب من الهاتف دون إذن، وترسل إلى خوادم ربما لا نعرف حتى في أي قارة تقع.
في لبنان، لم نعد بمنأى عن هذه الحروب الناعمة. فبحسب د. جمال مسلماني رئيس لجنة الخبراء الفنيين والرقميين في شبكة التحول والوكمة الرقمية في لبنان، فإن برامج إسرائيلية مماثلة مثل "Pegasus" تم استخدامها سابقًا في التجسس على صحفيين وناشطين سياسيين، وهو ما أثار موجة استياء عارمة بعد تسريب أسماء الضحايا المحتملين. واليوم، مع وجود "Graphite"، يتجدد الخطر بشكل أكبر وأدق، في ظل غياب إطار وطني فاعل للأمن الرقمي.
وأضاف مسلماني: كل شيء بات مُراقبًا، بدءًا من أبسط محادثة بين صديقين، إلى تلك الرسائل المشفرة التي نرسلها ظنًّا منا أنها في مأمن. ولكن هل نحن فعلًا في مأمن؟ كم مرة بعثنا صورًا خاصة، أو ناقشنا أمورًا حساسة تتعلق بعملنا أو عائلاتنا؟ كم مرة ظننا أن المراسلة عبر تطبيق "سيغنال" أو "واتساب" تحمينا؟ الحقيقة أن تلك التطبيقات لم تعد حاجزًا صلبًا، بل نافذة شفافة يرى منها العدو كل تفاصيلنا.
فهذه ليست دعوة إلى الهلع، لكنها دعوة ملحّة إلى الوعي. لأن التكنولوجيا التي بين أيدينا لم تعد أدوات ترفيه وتواصل فقط، بل أصبحت مساحات صراع، ومن لا يعي قواعد اللعبة يُصبح مجرد أداة فيها. فهل يُعقل أن نستمر في السذاجة نفسها التي كلفتنا الكثير عام 2024؟ عام امتلأت فيه قلوبنا بالخسارات، ليس فقط من وقع الانفجارات، بل من تسربات المعلومات التي سهّلت للعدو طريقه نحونا، دون أن يُطلق رصاصة واحدة.
نعم، إن "Graphite" ليس التطبيق الأول ولن يكون الأخير، لكنه جرس إنذار صارخ يُرينا أين نقف من هذه الحرب الناعمة. نحن لسنا فقط مستخدمين لهواتف ذكية، نحن وقود معركة رقمية لا ترحم. ولا أحد فينا بمنأى. فالمسؤولية لم تعد مسؤولية أجهزة الدولة فقط، بل كل فرد عليه أن يتحلى بالوعي الرقمي، أن يسأل، أن يشك، وأن يصمت عند الحاجة. لأن أبسط همسة قد تُترجم على الطرف الآخر إلى معلومة قاتلة.
وأشار مسلماني الى أننا "ربما نحتاج اليوم إلى ما يمكن تسميته بـ "الصمت الرقمي"، لا بمعنى الانقطاع عن التكنولوجيا، بل استخدام التكنولوجيا بذكاء، ببطء، وبتفكير عميق. لا شيء خاص على الإنترنت. ولا توجد خصوصية حقيقية في زمن البرمجيات المتوحشة. الخيار ليس بين الخوف أو الشجاعة، بل بين الغفلة أو الوعي."
قد يظن البعض أن هذه التحذيرات مبالغ فيها. لكن الحقيقة أن برامج مثل "Graphite" تحصل على تمويلات بمئات الملايين، ليس لأنها بلا فعالية، بل لأنها تصيب الهدف بدقة. ومن لا يريد أن يصدّق، فليبحث في التقارير الدولية، وليقرأ عن تلك الشركات التي تستثمر فيها أجهزة الاستخبارات وتُصدّرها للعالم على أنها أدوات "أمنية"، بينما هي في الواقع سلاح فتاك موجّه إلى كل من لا يخضع.
إننا في زمن يجب فيه أن نعيد تعريف الأمن، لا فقط على الحدود بل في كل شاشة نحملها في جيبنا. الهواتف أصبحت جبهات، والكلمات أصبحت قنابل. ولا نملك ترف التجاهل بعد اليوم.
امل سيف الدين- الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|