هل نحتاج فعلاً إلى صندوق النقد؟
تحاول الحكومة الجديدة أن تُعيد فتح النقاش مع صندوق النقد بهدف الوصول إلى اتفاق جديد بعدما انتهى الاتفاق الأول الذي وقع بين الطرفين على مستوى الموظفين في نيسان 2022. الشروط القديمة التي فرضها علينا صندوق النقد لم تعد صالحة بعدما طُبّق جزء منها بأمر الواقع الذي ازداد تشوّهاً عما قبل الانهيار، وهذا ما يثير التساؤلات عن النتائج الإيجابية المنتظرة من اتفاق جديد مع الصندوق. بمعنى أوضح الفرضيات التي بنى عليها صندوق النقد لفرض شروطه المسبقة لم تعد ذات قيمة، لا في ما يتعلق بالعجز الخارجي وسعر الصرف وعجز الموازنة. فهل توقيع اتفاق مع الصندوق أمر مفيد للبنان؟
مضت أكثر من سنتين على الاتفاق الذي توصّلت إليه حكومة نجيب ميقاتي مع صندوق النقد الدولي في نيسان 2022. تضمن الاتفاق منح الحكومة قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار على أربع سنوات، بشرط تنفيذ سلسلة إجراءات مالية ونقدية حدّدها الصندوق على النحو الآتي:
- موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية إعادة هيكلة المصارف والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة.
- صدور قانون من البرلمان لمعالجة أوضاع المصارف وإعادة التوازن المالي.
- البدء بعملية تقييم لأكبر 14 مصرفاً بمساعدة خارجية.
- إقرار تعديلات على قانون السريّة المصرفية ليتماشى مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد وإزالة العوائق أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإشراف عليه بشكل فعّال، وإدارة الضرائب، فضلاً عن الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
- إنجاز التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان.
- موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية متوسطة الأجل للمالية العامة وإعادة هيكلة الديون.
- إقرار قانون موازنة 2022.
- قيام مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف.
تنفيذاً للاتفاق، أقرّت تعديلات على قانون السرية المصرفية لم يعتبرها صندوق النقد كافية من دون أي مبرّر فعلي سوى أن رفع السرية المصرفية عن حسابات المصارف سترفع أمام شركات التدقيق ولجنة الرقابة على المصارف. وجرى توحيد سعر الصرف بشكل تلقائي مع استلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، وأقرّت موازنة 2023 التي لم تسجّل، دفترياً، أي عجز، بالعكس على الواقع سجّلت عمليات الخزينة فائضاً مالياً كبيراً ما يزال موجوداً في حساباتها لدى مصرف لبنان حتى الآن.
المشكلة الأساسية التي لم تعالج، هي مسألة توزيع الخسائر ومعالجة أوضاع المصارف، وما يلحقها من ملفات مثل تقييم أكبر 14 مصرفاً. عملياً، هذه القضايا محور نقاش متواصل لأنها تتعلق بثلاثة أطراف أساسية: المودعون، المصارف، أملاك الدولة. لكن ما يطلبه الصندوق اليوم لا يتعلق بتوزيع الخسائر، بل بإصدار قانون إطار لمعالجة المصارف، علماً أنه لدى لبنان قوانين جاهزة لمعالجة هذه المسألة بشكل واضح. فقانون الإطار لمعالجة أوضاع المصارف الذي أقرّه مجلس الوزراء لا يتعامل مع الخسائر، بل مع آليات تصنيف المصارف بين متعثّرة عن الدفع أو قادرة على الاستمرار وشروط الأمرين ونتائجهما. هذا شرط بديهي لا يتطلب إذناً من صندوق النقد للقيام به. المقصود هو أن ما طُبقّ من شروط، لم يكن فيه أي فضل لصندوق النقد، وما لم يُطبّق منها لا يحتاج إلى صندوق النقد.
إذاً، هل الهدف من الاتفاق مع صندوق النقد الحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار؟ في الواقع، سجّل لبنان في هذه السنة فائضاً مالياً على مستوى العجز الخارجي بقيمة 6.4 مليارات دولار في 2024 وبقيمة 2.2 مليار دولار في 2023، وعاد الاستهلاك المموّل من التحويلات الخارجية إلى نشاطه السابق للانهيار (تحويلات المغتربين وهي الأساس لم تظهر أي تراجع وتسجّل 6.38 مليارات دولار كمعدل وسطي بين 2020 و2024 وسجّلت في 2024 نحو 5.8 مليارات دولار)، فضلاً عن أن مبلغاً ضئيلاً كهذا لن تكون له أي فاعلية في بلد يعاني من عجز في الميزان التجاري يصل إلى 14 مليار دولار سنوياً.
الهدف الحقيقي من الاتفاق مع الصندوق، هو نيل «ختم» الصندوق بذريعة الولوج إلى الأسواق المالية العالمية، أي تعزيز الاقتراض بالعملة الأجنبية من الخارج. يذكر أن لبنان بعد الحرب الأهلية قام على نموذج «تمويل السلم الأهلي بالدين»، وأنفق الكثير من هذه الديون من دون أي قدرة على جذب الاستثمارات، بل سدّدت فوائد الديون من الإيرادات الضريبية ومن التحويلات الآتية إلى لبنان عبر المصارف، ثم جاءت النتيجة اليوم: انهيار مدوٍّ. السقوط في فخّ الدين يبدو لأي عاقل هو الهدف من الاتفاق مع الصندوق.
خيار العودة إلى الاستدانة، وعدا عن كونه أدّى إلى تبديد قسم كبير من الودائع التي امتصها النظام لتسديد فوائد الدين، لا يأخذ في الحسبان تجارب الدول الأخرى. مصر مثلاً أظهرت تحسّناً في المؤشرات الرقمية بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، مثل العجز في الحساب الجاري والعجز في الموزانة العامّة، إلا أن هذا الأمر لم ينعكس على الاقتصاد المصري الحقيقي، فقد بقي العجز في الميزان التجاري، وازدادت الأوضاع المعيشية سوءاً مع تراجع قيمة العملة المحلية، وازدادت نسب الفقر، وعند أول مفترق، مع كورونا، ثمّ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، هربت رؤوس الأموال، وعادت مصر لتطلب اتفاقاً جديداً مع صندوق النقد، وهي مثقلة بالديون الخارجية.
المؤشّرات الرقمية اليوم في لبنان أظهرت تحسناً بعد تطبيق طوعي يتماهى مع شروط الصندوق التي حدّدها في نيسان 2022، لكن لم يظهر الاقتصاد أي تحسّن. السبب هو أن الاستثمارات التي تجتذبها المؤشرات الرقمية «الجيدة» لا تعبّر عن نموّ اقتصادي بمقدار مع تعبّر عن أورام مالية.
ماهر سلامة - الاخبار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|