مليار دولار في مجارير الليطاني: من يحاسب الفاسدين؟
بينما يخوض اللبنانيون تحدّياً انتخابياً بلديّاً سيرسم ملامح الإنماء المحلي للسنوات الست المقبلة، من المتوقع أن يقف الفائزون بالمجالس، وخصوصاً في بلديات البقاع، على ضفاف تحدّ أكبر وربما أكثر إلحاحاً: التلوث المزمن في نهر الليطاني.
أكبر أنهر لبنان ليس بخير. وتتسبب 69 بلدة على ضفافه الممتدة من بعلبك إلى البقاع الغربي بتلوثه سنوياً بنحو 46 مليون متر مكعب من المياه المبتذلة، بسبب غياب محطات تكرير الصرف الصحي أو تعطلها، ما جعل أجواء البقاع تعبق برائحة المجارير باكراً هذا العام نتيجة لتراجع كمية الهطولات المطرية. فانفضح مجدداً جرح صفقات وتلزيمات توالى تنفيذها بهبات وقروض من ضمن استراتيجية وطنية لإدارة الصرف الصحي، وعدلت مرات عدة حتى العام 2020، لكنها لم تؤدّ إلى النتائج المرجوة في الحد من هدر الموارد المائية كما المالية.
مليارات الدولارات أُنفقت والحل مفقود
وفقاً لتقرير صدر خلال شهر آذار الماضي عن ديوان المحاسبة، فإن حجم الأموال التي أنفقت حتى العام 2020 بمشاريع بناء محطات التكرير على مجرى الليطاني اقتربت من المليار دولار، بينما حدد مجمل حجم الإنفاق على ما نفذه مجلس الإنماء والإعمار من محطات في مختلف الأراضي اللبنانية بين عامي 2001 و2020 بـ 763.5 مليون دولار، تضاف إليها كلفة تشغيل وصيانة بعض المحطات والتي بلغت 43.5 مليون دولار.
وتبدو نتائج هذا الإنفاق كارثية، ولم تحقق النتائج المتوقعة لجهة معالجة مياه الصرف الصحي، بما يتيح إعادة استخدامها بطرق تخدم البيئة والصحة العامة. لا بل يتحدث تقرير الديوان عن أموال هدرت في محطات بقيت معطلة أو غير مكتملة أو تفتقر إلى شبكات تصريف مناسبة.
وما زاد الطين بلّة، كان الانهيار المالي الذي اختبره لبنان، بحيث بلغت القيمة الإجمالية لمحطات التكرير التي بقيت خارج الخدمة منذ العام 2022، وفقاً لتقرير الديوان، حوالى 194 مليون دولار. وهذا ما كشف عن عجز مجلس الإنماء والإعمار عن إدارتها بسبب عدم توفر اعتمادات تمويل عقود الصيانة والتشغيل، مقابل عجز مالي في مؤسسات المياه حال أيضاً دون وضعها بتصرفها. هذا في وقت استمر الإنفاق على هذه المحطات لصيانتها، ضماناً لعدم توقفها نهائياً عن العمل، فبلغت تكلفة هذه الصيانة نحو تسعة ملايين دولار تقريباً.
ما ذكر يجعل من أزمة الصرف الصحي معضلة وطنية شاملة. وعليه أوصى ديوان المحاسبة بإصلاح منظومة إدارة الصرف الصحي بدءاً من التخطيط إلى التنفيذ والاستلام، مشيراً إلى ضرورة إشراك البلديات ضمن آليات شفافة وخاضعة للمساءلة.
تواطؤ ثلاثي قائم
إلا أنه وفق قراءة خبيرة، فإن مجرد عرض المشكلات والتوصيات بحلولها، من دون محاسبة فعلية للمنظومة التي هدرت المال العام، لن يؤدي إلى الإصلاح المطلوب في منظومة الصرف الصحي.
تطرح القراءة تساؤلات عديدة حول السبب الذي يجعل معظم ملفات تلزيم الصرف الصحي التي أطلقها مجلس الإنماء والإعمار، تنتهي بواقع تنفيذ محطة من دون شبكة موصولة بها، أو تنفيذ شبكات من دون وصلها بمحطة، أو تنفيذ جزئي للشبكات أو للمحطات.، لتضيء على واقع التعديلات التي يسعى إليها المقاولون بعد فوزهم بالصفقات، وهي تعديلات تنتهي واقعياً إلى عدم استكمال المشاريع. هذا بالإضافة إلى التلاعب ببنود دفاتر الشروط والمواصفات. لتخرج القراءة باستنتاج مفاده أن التمويل الخاطئ للمشاريع ليس صلب المشكلة الحقيقية، إنما هو في المنحى الذي اتّخذ منذ سنوات، بإرساء الصفقات على متعهدين يحرقون أسعار أحد البنود، سواء أكان متعلقاً بالشبكة أو بالمحطة، ليرفعوا سعر بند آخر، فيفوزون بعرض أدنى، يعرّض الصفقة عند تنفيذها لخلل مالي، وتكون النتيجة تنفيذ جزء من المشروع، عبر تحويل الأموال من بند إلى آخر، تحت ذريعة فروقات الأسعار.
غير أن هذه التعديلات لم تكن لتنجح، وفقاً للقراءة الخبيرة، لولا تواطؤ ثلاثي قائم بين المتعهد، الاستشاري ومجلس الإنماء والإعمار. وهذا ما يعزز المطالبة بتكليف جهة تدقيق مستقلة بكافة مشاريع الصرف الصحي، ودراسة دفاتر الشروط، ملفات التلزيم، محاضر الاستلام، قرارات مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار ذات الصلة، الكشوفات وملفات تعديل الكميات أو الأسعار او الأعمال الإضافية، وإحالة نتائجها للنيابة العامة التمييزية وهيئة مكافحة الفساد، لتلافي مثل هذا التواطؤ في المشاريع المستقبلية، وإخضاع جميع الصفقات لرقابة الجهات المعنية ومن بينها هيئة الشراء العام.
توصيات ديوان المحاسبة: إصلاحات على الورق؟
مع أن تقرير ديوان المحاسبة لم يتحدث مباشرة عن مثل هذا التواطؤ، لكنه اعتبر «أن تحديد المسؤوليات في الإنفاق المالي على مشاريع المحطات والشبكات، يستوجب تدقيقاً مالياً لكل مشروع على حدة، وذلك لترتيب المسؤوليات وفقاً للصلاحيات المناطة بكل طرف معني في المنظومة».
ووجه الديوان في المقابل بوصلة تقريره نحو خطوات مستدامة وآليات مشتركة للعمل أوصى بها، لتفادي تكرار الإخفاقات، وخصوصاً بعد ما كشف عن غياب التنسيق بين الجهات المعنية بإدارة الصرف الصحي، أدى إلى ازدواجية في الأدوار وتضارب في الصلاحيات.
وبانتظار أن يقلّع العهد الجديد بخطواته الإصلاحية التي يؤمل أن تشمل هذا القطاع الحيوي في لبنان، لا بد من الإضاءة المستمرة على واقع الليطاني الحالي. فبين فساد إداري متجذر، وضعف التخطيط، وضغوط النزوح، يقف نهر الليطاني اليوم على شفير كارثة بيئية وصحية تهدد مستقبل البقاع ولبنان ككل. ووفقاً للتقرير الذي وضعته المصلحة الوطنية بتصرف الديوان، في إطار صلاحياتها بتسليط الضوء على الخطر البيئي الحاصل في حوض نهر الليطاني، تقدر مساحة الأراضي الزراعية الواقعة ضمن مسافة كيلومترين على جانبي النهر بـ 8396 هكتاراً، وأكثر من 1000 هكتار منها يروى من النهر.
ضغوط النزوح السوري: عبء إضافي على حوض الليطاني
هذا في وقت يفاقم تواجد النازحين في منطقة حوض الليطاني الضغوطات على البنية التحتية لخدمات الصرف الصحي. إذ يقدر العدد التقريبي للنازحين المقيمين على ضفاف نهر الليطاني وروافده بـ 68645 نسمة. وقدرت كميات الصرف الصحي الناتجة عن هذه التجمعات السكانية في الحوض الأعلى بـ 2,104,655 متراً مكعباً سنوياً، و135,000 متر مكعب سنوياً في الحوض الأدنى.
أعرب الديوان عن قلقه تجاه هذه الملاحظات والأرقام، وخصوصاً في ظل غياب الحوكمة، أو حتى رؤية واضحة للحل بالتعاون بين وزارة الطاقة ومؤسسات المياه والبلديات، وهذا ما اعتبر الديوان أنه يعزز فكرة انعدام النية بإيجاد حل.
في المقابل أصر الديوان على مشاركة البلديات بدور أساسي في منظومة رفع التلوث عن الليطاني، وخصوصاً بظل العجز الذي تعانيه مؤسسات المياه، وأوصى بتلزيمها أشغال صيانة شبكات الصرف الصحي والجباية لصالح مؤسسات المياه لقاء عمولات. وإذ أعربت مصلحة الليطاني عن خشيتها من أن يشكل ذلك تخلّياً من قبل مؤسسات المياه عن دورها لبلديات عاجزة أساساً، ما يمكن أن يعيد عقارب الساعة إلى مرحلة العشوائية التي سادت في إدارة القطاع سابقاً، اعتبر الديوان أن سوء الإدارة في الماضي لا يجب أن يغيّب دور البلديات الأساسي في التخفيف من حدة المركزية بإدارة هذا الملف، مع ضرورة توزيع الصلاحيات وبالتالي المسؤوليات بين الأطراف المعنية من ضمن شروط ضمان الشفافية والمساءلة، على أن تعقد البلديات والحكومة ورشة عمل فعلية لإرساء هذه الإصلاحات بعد الانتخابات البلدية.
#حمّل تقرير ديوان المحاسبة مسؤولية محطات التكرير التي هدرت الأموال إلى الحكومات المتعاقبة ولا سيما وزارتي الطاقة والمياه والداخلية والبلديات، وإلى مجلس الإنماء والإعمار ومؤسسات المياه.
لوسي بارسخيان - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|