سوريا بين الماضي الاستعماري والحاضر المنقسم: هل يعود شبح الدويلات الطائفية؟
تعيش سوريا منذ عام 2011 واحدة من أكثر الحروب الأهلية دموية وتعقيداً في العصر الحديث. الحرب التي بدأت باحتجاجات سلمية ضد النظام تحولت إلى صراع دموي متعدد الأطراف، تتداخل فيه القوى الاقليمية والدولية، وتتشابك فيه الأبعاد السياسية والطائفية والعرقية. من بين المخاطر الكبرى التي تلوح في أفق هذا الصراع الممتد، يبرز خطر تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أو إثنية، في تكرار محتمل لما حاولت القوى الاستعمارية فرضه خلال القرن العشرين، وتحديداً خلال فترة الانتداب الفرنسي.
خلفية تاريخية: التقسيم الفرنسي لسوريا
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وُضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي بموجب اتفاقية سايكس-بيكو (1916) وقرار عصبة الأمم في عام 1920. ومنذ البداية، لم يكن المشروع الفرنسي مشروع وحدة أو استقلال، بل مشروع تقسيم وتفتيت، يهدف إلى تسهيل السيطرة على هذه المناطق من خلال إثارة الانقسامات الطائفية والإثنية.
في عام 1920، قامت السلطات الفرنسية بتقسيم الأراضي السورية إلى عدة دويلات:
- دولة دمشق: تضم وسط سوريا، وكانت ذات أغلبية سنية.
- دولة حلب: تشمل شمال البلاد، ومُنحت بعض الامتيازات للعلويين والأكراد.
- دولة جبل العلويين: أُنشئت في الساحل السوري، لتكون منطقة شبه مستقلة للعلويين.
- دولة جبل الدروز: في الجنوب، خصوصاً في منطقة السويداء.
- منطقة الإسكندرون: أُلحقت لاحقاً بتركيا في عام 1939.
كان هذا التقسيم يستند إلى رؤية فرنسية تعتبر أن الطوائف والمجموعات الإثنية لا يمكنها التعايش ضمن كيان سياسي موحد. وقد استُخدم هذا التقسيم كوسيلة للتحكم عبر تفريق المجتمعات السورية ومنعها من تشكيل جبهة وطنية موحدة قادرة على مقاومة الاستعمار.
وعلى الرغم من أن السوريين رفضوا هذا النهج وبدأوا بالمطالبة بالوحدة والاستقلال، إلا أن آثار هذا المشروع بقيت حاضرة في البنية الاجتماعية والسياسية السورية، وخصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات بين الطوائف، وموقع الأقليات، ودور الجيش في الحياة السياسية.
الصراع السوري بعد 2011 وخطر العودة إلى التقسيم
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011 وتحولها إلى صراع مسلح، ظهرت انقسامات جديدة على أسس طائفية وعرقية. فالنظام السوري المدعوم من روسيا وإيران اعتمد بصورة كبيرة على العلويين وميليشيات شيعية إقليمية، بينما توزعت قوى المعارضة بين فصائل إسلامية سنية، وتنظيمات جهادية، ومجموعات معتدلة، فضلاً عن القوى الكردية في الشمال الشرقي التي تبنت مشروعاً فيدرالياً خاصاً بها.
هذا التمزق في الجغرافيا السورية ترافق مع نشوء كيانات أمر واقع:
- النظام السوري يسيطر على ما يُعرف بـ”سوريا المفيدة”، أي المدن الكبرى وبعض المناطق الساحلية.
- “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، ذات الغالبية الكردية، تسيطر على شمال شرق البلاد.
- “هيئة تحرير الشام” (جبهة “النصرة” سابقاً) تهيمن على إدلب وبعض أجزاء من الشمال.
- فصائل موالية لتركيا تسيطر على مناطق حدودية في الشمال والشمال الغربي.
هذا التقسيم العسكري ترافق مع خطاب سياسي وثقافي يعيد إنتاج الانتماءات الطائفية والعرقية كمرتكزات أساسية للهوية، ويضعف إمكان العودة إلى دولة مركزية موحدة.
خطر الدويلات الطائفية على وحدة سوريا والمنطقة
إن العودة إلى منطق الدويلات الطائفية لا يشكل خطراً على سوريا فحسب، بل على كامل المنطقة. فنجاح هذا النموذج في سوريا قد يشكل سابقة خطيرة تُستخدم في بلدان متعددة تعاني من تنوع طائفي أو عرقي، مثل العراق ولبنان واليمن. كما أن هذا النموذج يعزز منطق الميليشيات والانتماءات الضيقة على حساب الانتماء الوطني، ويفتح الباب أمام تدخل خارجي دائم في الشؤون الداخلية للدول.
في سوريا، فإن تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية سيكون بمثابة إعلان عن فشل مشروع الدولة الوطنية الذي بدأ مع الاستقلال في الأربعينيات. كما أنه سيُفضي إلى صراعات حدودية مستمرة، ونزاعات على الموارد، وحروب بالوكالة بين القوى الاقليمية والدولية.
دروس من الماضي وإمكانات المستقبل
التجربة الفرنسية في تقسيم سوريا في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته أثبتت فشلها، إذ لم تؤدِ إلى الاستقرار ولا إلى ازدهار المجتمعات الطائفية، بل عمّقت التوترات وزادت من الانقسامات. واليوم، من الضروري التذكير بأن سوريا لم تعرف فترات استقرار نسبي إلا عندما كانت دولة موحدة ذات مؤسسات قوية (على الرغم من طبيعتها الاستبدادية في العقود الأخيرة).
المطلوب اليوم ليس العودة إلى نموذج الدولة المركزية القمعية، ولا القبول بتقسيم البلاد، بل السعي إلى صيغة جديدة من التعايش تضمن حقوق جميع المكونات السورية ضمن إطار وطني موحد، عبر نظام ديموقراطي، لامركزي، يعترف بالتنوع ويحمي الأقليات من دون تحويلها إلى كيانات مستقلة.
التهديد بتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية ليس مجرد سيناريو نظري، بل احتمال واقعي في ظل توازنات الصراع الحالية. غير أن هذا المشروع، الذي فشلت فرنسا في فرضه قبل مئة عام، أضحى حصوله خطراً داهماً في ضوء التغيرات والتحولات في المنطقة، عبر مسعى إسرائيل لتطبيقه.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|