هذه تفاصيل الساعات العصيبة التي سبقت الرد وتلته
من النادر أن يُقابَل فائض التفاؤل الذي يُبديه أي موفد غربي يزور لبنان بفائض قلق، كما حدث مع تصريحات سفير الولايات المتحدة الأميركية في تركيا والمبعوث الخاص في الملف السوري، السفير توماس بارّاك. الموفد، الذي عاد في زيارته الثانية لتسلّم رد لبنان على الورقة التي سبق أن قدّمها، نوّه بقدرة الرؤساء على إنجاز الرد في وقت قياسي، وذكّر اللبنانيين بما كان عليه بلدهم، مقدّماً الكثير من الوعود بعودته "لؤلؤة المتوسط"، كما يراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكنه أشار بشكل مبطّن، وبابتسامة عريضة وحنين كمواطن لبناني إلى بلده الأم، إلى الشروط الواجب توفرها لتحقيق ذلك.
حقيقة ما قاله باراك
نبّه بارّاك إلى "أنها فترة شديدة الأهمية بالنسبة للبنان والمنطقة، وأن هناك فرصة تلوح في الأفق، ولا أحد أكثر من اللبنانيين قدرةً على اغتنام الفرص المتاحة في مختلف أنحاء العالم". معتبراً أن الوقت قد حان، "فالمنطقة تتغيّر، وكل شيء يتحرّك بسرعة فائقة. والدول من حولنا تمرّ بتحولات وتغييرات. ورئيس الولايات المتحدة له سياسة خاصة تختلف عن سياسات من سبقوه، منذ عهد دوايت أيزنهاور".
وكان صريحاً للغاية حين طالب لبنان بتقديم تنازلات "لتحظوا بدعم من العالم أجمع لتحقيق ذلك. لكن لا بد أن يبدأ ذلك من الداخل. وكل هذا يحدث في فترة قصيرة جداً". وبصريح العبارة قال: "إذا أردتم التغيير، فأنتم من يجب أن يُحدثه، ونحن سنكون إلى جانبكم وندعمكم. أما إذا لم ترغبوا بالتغيير، فلا مشكلة. المنطقة بأسرها تسير بسرعة فائقة، وأنتم ستكونون متخلّفين، للأسف. وهذه فعلاً رسالة الوزير روبيو والرئيس ترامب".
والمطلوب من كل ما سبق هو الوصول إلى الهدف الأساسي، وهو السلام الذي تصبو إليه إسرائيل. "لكن التحدي يكمن في كيفية تحقيق ذلك"، مشيراً إلى ضرورة تقديم "تنازلات". أما أدق ما قاله فكان المتعلق بحزب الله، "الذي عليه أن يرى مستقبله كحزب سياسي، في نقطة تقاطع بين السلام والازدهار يمكن أن تشملَه أيضاً".
كل ما سبق وضعه بارّاك في عهدة "الحكومة اللبنانية"، ليختم بالقول: "إنها مشكلتكم، وعليكم أنتم حلّها".
نصح بارّاك لبنان بأن يضع جانباً كل ما سلف من قرارات، منذ عام 1967، أو 1974، أو 1982، أو 1993، أو حتى القرار الأممي 1701، معتبراً أن كل هذه الأمور لم تعد ذات أهمية كبرى. مُعلناً فتح زمن جديد سيعيد فيه ترامب صياغة المنطقة وقراراتها.
في قصر بعبدا، تسلّم بارّاك الرد اللبناني، ورقة عمل تتضمن مقدمة عن واقع لبنان في ظل العدوان الإسرائيلي، واتفاق وقف إطلاق النار، مروراً بالقرار 1701، الذي تنصلت إسرائيل من تطبيقه، وصولاً إلى اتفاق الطائف، الذي يشدد على الحوار والتفاهم بين اللبنانيين، ودور الجيش المستعد لبسط سلطته على كامل الأراضي اللبنانية، والتعهد بأن يكون قرار السلم والحرب بيد الدولة اللبنانية حصراً.
في الورقة، التي يُفترض أن يعرضها بارّاك على إسرائيل لمعرفة رأيها، يطالب لبنان بوقف الأعمال العدائية، ويتحدث عن حصرية السلاح بيد الدولة، وسحب السلاح تدريجياً، وإنهاء الوجود المسلح لكل الأفرقاء على كامل الأراضي اللبنانية. كما يؤكد أن الجيش تمكن من بسط سلطته على معظم الأراضي جنوب الليطاني، وهو بصدد استكمال انتشاره، وينتقل من هذا البند إلى طلب مساعدة للجيش لتمكينه من أداء دوره، وهو ما يحتل بنداً أساسياً في ورقة الرد.
ومن البنود أيضاً، بند يتحدث عن ضرورة انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس التي تحتلها، وحل مسألة تحرير الأسرى بالطرق الدبلوماسية، وعودة أهالي القرى الجنوبية إلى منازلهم. وبعد تحقيق هذه المطالب، وبالتوازي، سيباشر لبنان ترسيم الحدود مع سوريا وإسرائيل تطبيقاً للقرار الدولي 1701.
يطالب لبنان كذلك بالمساعدة على إعادة الإعمار، وعقد مؤتمر تشارك فيه فرنسا والولايات المتحدة.
وإلى جانب ورقة الرد، سلّم لبنان ورقة عمل تتحدث عن الخطوات التنفيذية لانتشار الجيش اللبناني وضبط السلاح، وهي الخطة التي سبق واطلع عليها حزب الله وأبدى موافقته عليها. إلا أن الأهم، هو طلب لبنان ضمانات بتعهد إسرائيل بالانسحاب ووقف الاعتداءات، كشرط أساسي لتنفيذ ما ورد في الورقة.
عموماً، تحدثت الورقة عن حصرية السلاح، وتجنبت استخدام عبارة "سحب السلاح"، واستفاضت في الحديث عن دور الجيش وضرورة دعمه، لكنها تعهّدت بالعمل على حصر السلاح بيد الجيش، طالبة عدم تحديد جدول زمني للتنفيذ، واشترطت لتنفيذ هذا التعهد إنهاء الاحتلال ووقف العدوان كعامل مساعد.
تسلّم بارّاك الورقة، ولم يُغدق الوعود، وإن أعطى لبنان الحق بالمطالبة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب كعامل مساعد للدولة لبسط سلطتها، لكنه في المقابل لم يضمن استجابة إسرائيل لذلك، وقال إنه سيتولى نقل الجواب للرئيس ترامب لمناقشته مع الجانب الإسرائيلي.
ساعات ما قبل الرد:
ساعات عصيبة سبقت وضع اللمسات الأخيرة على ورقة الرد. حتى وقت متأخر من ليل السبت ـ الأحد، كانت الأمور معقدة. جرت اجتماعات ثنائية وثلاثية، وزيارات خاطفة للموفدين بين المقرات الثلاثة. مستشار بعبدا في عين التينة، ومستشار عين التينة في السراي. أُشرك حزب الله في الاجتماعات التي عقدت بين النائبين علي حسن خليل ومحمد رعد، بحضور الحاج حسين الخليل. رفض حزب الله الالتزام بتقديم أي تعهد. واعتبر أن الاتفاق القائم لم يردع إسرائيل، وأن موافقته على الورقة الأميركية الإسرائيلية تعني الاستسلام. كان يفضل لو يؤجَّل تقديم الرد، لإفساح المجال لمزيد من البحث. لكن الطرف الآخر في الثنائية أُحرج. كيف يمكن التأجيل بينما الموفد حضر خصيصاً لتسلُّم الرد؟
وفيما كان يُفترض الاتفاق بين الرؤساء على نصّها النهائي، طرأ تغيير اقترحه الثنائي بأن يتولى رئيس الجمهورية تقديم الورقة للموفد الأميركي، ويتبلغ الموافقة الشفهية عليها من الرئيس بري. تحولت الاجتماعات في بعبدا من ثلاثية إلى ثنائية.
طيف اتفاق وقف إطلاق النار يلاحق الثنائي. فكيف يمكنه أن يرضى أمام جمهوره وبيئته بالموافقة على اتفاق ثانٍ بينما معاناة الاتفاق الأول لا تزال قائمة؟ بدا أن بري رفض تحمّل تبعات خطوة جديدة غير مضمونة، وأن حزب الله لم يعد بوارد الدخول في اتفاقات يعتبرها استسلامية، وهو الذي يرى نفسه جاهزاً لصد أي عدوان مهما كان الثمن.
حزب الله لا يريد الحرب، وأبلغ بعبدا والسراي بذلك، لكنه بالمقابل لا يريد الاستسلام لصيغة أميركية - إسرائيلية تُقيده، ويرفض تسليم سلاحه. فهمت بعبدا الرسالة. لكن في المقابل، هناك عتب من الرئاسات على حزب الله، فالظرف لا يحتمل حرباً جديدة.
وخلال استقباله الموفد الأميركي، نقل بري له هواجس حزب الله، والإلحاح على ضرورة الحصول على ضمانات. عين التينة، كما حزب الله، رأت في تصريحات بارّاك وكأنه يتحدث بلسانه اللبناني. عمت الإيجابية المقرات الثلاثة، لكن مهلاً، فالورقة خالية من أي تعهد من حزب الله. والطرف المعني بها رفض منح وعود حتى لرئيس الجمهورية، رغم المدائح التي أُغدقت على الرئاسة الأولى. هذه المرة، قد لا يمرّ عدم الاقتناع الأميركي على خير. بارّاك حمل الرد ولسان حاله يقول: "ما على الرسول إلا البلاغ". واليوم، سيستكمل زيارته للبنان ومواعيده.
غادر المقرات الرئاسية، وبدأ التداول والتقييم لما قاله. محاضر الاجتماعات تحيطها أجواء من الاطمئنان المشوب بالقلق. كلامه لم يُوحِ بأن الحرب آتية، وقد سحب فتيل الخوف، لكنه لم يسحب القلق، بانتظار ما سيقرره نتنياهو الموجود في واشنطن.
غادة حلاوي - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|