الصحافة

التفاهم السوري - الإسرائيلي: التاريخ يعيد ترتيب خرائط المنطقة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

اللقاء الذي جمع بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية والأكثر قربًا من رئيسها، رون ديرمر، بترتيب وحضور السفير الأميركي في أنقرة المكلّف بالملف السوري، توم برّاك، يعدّ خطوة بارزة في مسار الانفتاح السوري على إسرائيل، وما يتّسم به من واقعيّة سياسيّة ممزوجة بالجرأة، تتيح تفكيك لوحة التهديدات المعقّدة التي تواجه دمشق، من خلال تحييد قطعة رئيسة فيه ذات شرايين متصلة بأميركا وأوروبا، ومؤثّرة في معادلات النفوذ الدولي والإقليمي.

هذا الاجتماع يدحض ما ذهبت إليه السيناريوات والتحليلات الانفعالية في رسم صورة شديدة المبالغة حول تفكّك سلطة دمشق، بينما يبدو أن انفجار مأساة السويداء عزّز موثوقية مسار التفاهم مع إسرائيل واستدامته، لكونها أثبتت مدى صعوبة مواجهة حكم ناشئ تحديات هائلة، داخلية وخارجية، ولا سيّما في ظلّ تربّص قوى إقليمية متضرّرة، وعلى رأسها إيران وحلفاؤها، أكان في العراق أم في لبنان، في موازاة مشاريع نفوذ داخلية لا تقتصر على الكرد وسائر المكوّنات، بل تشمل قوى سنية تحاول أن تقدّم نفسها كبديل يمكنه تسلّم الحكم، حتى لو كان على رقعة جغرافية ضيّقة، مثل "الإخوان المسلمين" وسواه من تيارات مدنية أو محافظة.

سياسة دمشق خلال المرحلة الانتقالية المتوتّرة المرتكزة على تفكيك التهديدات الاستراتيجية، والتعامل معها وفق خطوط ومسارات منفصلة، يظهر فيها الكثير من أوجه الشبه مع مرحلة ولادة الدولة التركية الحديثة، ولا سيّما في ظلّ دور أنقرة كفاعل أساسي إلى جانب شركاء آخرين في عملية إعادة تشكيل الدولة السورية.

في الواقع ثمة الكثير من الاستخفاف والتنميط في المقاربات الإعلامية والدعاية السلبية إزاء شخصية أحمد الشرع وقدرته على التكيّف مع معادلات القوة، تختصر مسيرته في قالب ضيّق يتغافل عمدًا عن البراغماتية التي أظهرها في المحطّات المفصلية، وبراعته في توظيف لحظات الهزيمة ومفاعيلها، وتحويلها إلى فرص لإجراء تحوّلات استراتيجية، أيديولوجيًا وسياسيًا وتنظيميًا، وفتح قنوات حوار مع القوى الدولية تمكّن من خلالها من إحداث خرق جدّي، أدّى إلى إبرام تفاهمات وتسويات مهّدت للحالة الراهنة.

إثر فشل معركة تحرير حلب أواخر عام 2016، والتي اعتبرت نقطة تحوّل بارزة قرّبت بشار الأسد من سحق معارضيه، انكفأ الشرع إلى حيّز جغرافي ضيّق وبات محاصرًا بكمّاشة، طرفها الأوّل نظام الأسد، والثاني "داعش" و "القاعدة" اللذان عملا على اجتثات نفوذه بعدما كفّراه وخوّناه إلى جانب تنظيمات راديكالية أخرى. إلّا أنه صاغ استراتيجية براغماتية، مكّنته من عقد تحالفات مع قوى إقليمية، وبناء قاعدة اجتماعية موسّعة، ومواجهة خصومه بتكتيكات مرنة تراوحت بين البطش والاحتواء.

وهنا بالضبط يبرز التشابه مع مسيرة مؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كان من منطلقات مختلفة. فالرجل الذي أرسى دعائم علمانية صارمة كهوية لتركيا الحديثة، هو نفسه من ارتكز على المحافظين وبعض الطرق الصوفية لبناء قاعدة تحالفات اجتماعية موسّعة ضمّت القوميين الأتراك والكرد، واستقطب شيوخ العشائر وقبضايات الشوارع واستخدمهم كأدوات شديدة الفعالية لتطويع البنى الاجتماعية، مثلما يفعل الرئيس السوري تقريبًا.

اعتمد أتاتورك خطابًا إسلاميًا جامعًا لاكتساب مشروعية شعبية على حساب السلطان محمد السادس، فظهر غداة "معاهدة سيفر" كـ "مسلم يكافح الكفرة". ومنذ أيام قليلة، أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي اشتهر بتوظيف الإرث التاريخي بدهاء، وفي توقيت محمّل بالدلالات المتصلة بالتحوّلات الكردية والسورية، استحضار الرسالة التي وجّهها أتاتورك عشية افتتاح "مجلس الأمة التركي" في أنقرة ربيع عام 1920، وما تتّسم به من نزعة إسلامية لا تتّسق مع شخص يصفه الإسلاميون بـ "إمام العلمانيين".

غير أن أتاتورك تبنى استراتيجية براغماتية لتوسيع الجغرافيا المقيدة التي أفرزتها "سيفر" وتفكيك الاحتلالات، من خلال إبرام تفاهمات ثنائية مع الدول الشريكة في مغانمها، مكّنته من الاستفراد باليونان لخوض مواجهة عسكرية معها، ما أفضى بالنهاية إلى ولادة "اتفاقية لوزان" في مثل هذه الأيام قبل قرن ونيّف، لتكون خاتمة مرحلة طويلة من الصراعات والحروب بدأت مع حرب البلقان الأولى عام 1912، وكانت حافلة بـ "الترانسفير" الديموغرافي المأسوي وتبدّل الخرائط.

وما لم يسعه الحصول عليه في "لوزان"، استطاع تحصيله عبر مقايضة موقف الحياد التركي في الصراع الدولي الذي أدّى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، لاسترجاع السيطرة على المضائق عبر "اتفاقية مونترو"، وتنازل فرنسا له عن "لواء الإسكندرون". ناهيكم بسحقه بقسوة شديدة انتفاضة الكرد العلويين في "درسيم" أو "تونجلي" بين 1937 و1938، وهي المنطقة التي يتحدّر منها كمال كليتشدار أوغلو، خصم أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ضمن سياسة الإدماج الإجباري لكلّ العرقيات ضمن الهوية التركية.

اليوم يمسي الشرع كمَن يفتح "بطن التاريخ" متموضعًا بين "معاهدة سيفر" و "اتفاقية لوزان"، مع استخدامه سياسات مشابهة لتوسيع سيطرة حكومته وإدماج الهويات للحفاظ على وحدة الجغرافيا السورية، وفي ظلّ "ترانسفير" ديموغرافي بدأ قبل أحداث السويداء الأخيرة، وفي الجامعات خصوصًا. في قلب هذه السياسات، تبرز العصبية السنية كقاعدة حكم تسهم في زيادة الالتباس إزاء البراغماتية التي تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية.

بيد أن مرونة الشرع الذي سبق أن منح الإفتاء للتيار الديني التقليدي الصوفي لإحداث التوازن مع الجماعات المتشدّدة الداعمة لحكمه، متجاوزًا الاعتراضات الشديدة عن يمينه وشماله، تتجلّى في قيادة العصبية السنية لإبرام تفاهم مع إسرائيل يمكن اعتباره بمثابة "ضربة معلّم"، لأنه يفتح الطريق أمام تحوّل تاريخي يشتمل على متغيّرات توازي نتائج "سايكس بيكو" و"لوزان"، الأمر الذي يستلزم الحفاظ على هذا "الكاراكتير" الذي يظهر به. ومن غير المستبعد أن يعقب هذا التفاهم، في حال نضوجه، جملة من التغيّرات البراغماتية التي يصعب تخيّلها راهنًا، تترافق مع معالجة كلّ تحدّ بشكل منفصل لتحصيل ما لم يتح تحصيله اليوم.

سامر زريق - نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا