الميثاقية حق "فيتو" غير مكتوب يسمح لأي طائفة بالتعطيل؟!
منذ اتفاق الطائف، لم يعد النص الدستوري وحده كافيًا لتفسير الحياة السياسية في لبنان. فالنظام الذي وُلد في العام 1989، نقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعًا، لكنه ترك مساحات واسعة للأعراف كي تنمو وتصبح أحيانًا أقوى من النصوص نفسها. من أبرز هذه الأعراف «الميثاقية»، التي تحوّلت تدريجيًا من شعار وطني إلى شرط عملي يعادل النصاب القانوني. ومع كل أزمة حكومية، يظهر هذا المفهوم ليذكّر اللبنانيين بأن الدولة عندهم لا تُدار بالقوانين والقرارات الرسمية وحدها؛ بل بالغطاء الطائفي المتبادل.
حول هذا الموضوع يقول الوزير السابق الدكتور خالد قباني إن"الميثاقية الحقيقية يجب أن تكون واحدة، هي ميثاقية الوطن كله والشعب اللبناني بأسره. وإذا اعتبرنا أن لكل طائفة ميثاقيتها، فإننا نلغي الوطن والدستور معًا، ونحوّل الميثاقية إلى وسيلة لتقويض الدولة. بعد اتفاق الطائف، وبعد النص الواضح في مقدمة الدستور، لا يحق لنا أن نخترع ميثاقيات متفرقة وفق المصالح والظروف. الميثاقية ليست أداة لتبريركل مطلب أو كل انسحاب؛ بل هي الترجمة الفعلية للعيش المشترك تحت سقف وطن واحد ودستور واحد."
نصوص الطائف وحدودها
رسم الطائف إطارًا جديدًا لعمل المؤسسات. الحكومة لا تنعقد من دون ثلثي أعضائها، والقرارات العادية تُتخذ بالأكثرية، في حين أنَّ المواضيع الأساسية تحتاج إلى ثلثي الأصوات. هذا الترتيب كان يهدف إلى ترسيخ الشراكة، ومنع استفراد أية طائفة بالقرار. لكن الطائف لم ينص على شرط إضافي يقضي بوجوب حضور ممثلي جميع المكوّنات. فالقانون لا يمنع انعقاد الجلسة بغياب طائفة بأكملها إذا كان النصاب مؤمناً.
غير أنّ الممارسة السياسية أدخلت عنصراً جديداً: لا يكفي احتساب النصاب عدديًا؛ بل ينبغي أن يحضر ممثلو الطوائف الكبرى، وإلا بدا القرار بلا غطاء وطني. وهنا وُلدت الميثاقية بوصفها عرفاً سياسياً غير مكتوب، لكنه اكتسب قوّة تضاهي قوة النص.
في هذا السياق يقول الدكتور خالد قباني: "في الحياة السياسية اللبنانية، نعطي الميثاقية دورًا يتقدّم على الدستور؛ بل يكاد يكون فوق الدستور نفسه. وهذا ما يؤدي إلى خلطٍ في المفاهيم، لدرجة أنّنا نتجاهل الدستور ونعتبره غير موجود. هكذا تتحول الميثاقية إلى ذريعة، ويصبح لكل طائفة ميثاقيتها الخاصة ومبادئها الدستورية المغايرة لتلك التي تعتنقها طائفة أخرى". ويضيف "بهذا المعنى، نحن لا نعيش مفهوم الوطن الواحد؛ بل نعيش حالة تفكك تُذيب الوطن في محاليل الطوائف، حيث تُقدَّم تقاليدها ومرجعياتها وميثاقياتها الخاصة على فكرة الوطن الجامع. فلا يبقى وطن واحد، ولا شعب واحد، ولا ميثاقية وطنية جامعة."
لحظة التأسيس
التحول الجوهري وقع في خريف 2006 مع الخلاف على المحكمة الدولية بعد اغتيال رفيق الحريري. استقال وزراء «حزب الله» و«أمل»، فبقيت حكومة فؤاد السنيورة قائمة دستوريًا؛ إذ لم تُفقد شرط الثلث+1. لكنّ القوى الشيعية اعتبرتها "حكومة بتراء" فاقدة ميثاقيتها؛ أي إنها لم تعد تمثل جميع المكوّنات.
في هذا السياق يستذكر الدكتور قباني: "أن دولة الرئيس السنيورة في حينه، كان متمسكاً بعودة هؤلاء الوزراء، مع العلم أن الحكومة كانت تحظى بثقة البرلمان ومشكلة وفق الأصول، وهو ما يجعلها دستورية"، لكن، منذ تلك اللحظة، ترسّخ العرف: النصوص وحدها لا تكفي، ويجب أن يواكبها «غطاء طائفي». هذه السابقة جعلت أي رئيس حكومة يدرك أنّ القرارات، وإن كانت محصنة بالقانون، قد تُجرّد من شرعيتها السياسية بمجرد مقاطعة فريق أساسي.
من الشارع إلى اتفاق الدوحة
التجربة لم تقف عند حدود الانسحاب من الحكومة. ففي أيار 2008، وبعد قرار مجلس الوزراء المتعلق بشبكة اتصالات حزب الله، اندلعت مواجهات دامية في بيروت والجبل. استخدم الحزب سلاحه في الداخل لأول مرة على هذا النطاق، وهو ما دفع إلى تسوية إقليمية – دولية عُرفت بـ"اتفاق الدوحة".
هذا الاتفاق ثبّت مبدأ «الثلث المعطّل» داخل الحكومة. أي إنّ أي فريق سياسي يمتلك أكثر من ثلث المقاعد الوزارية يستطيع أن يمنع انعقاد الجلسات أو إسقاط الحكومة أو فرض التوافق على القرارات الأساسية. عمليًا، حوّل الدوحة الميثاقية من مجرد شعار إلى أداة دستورية – سياسية شبه رسمية، أعطت القوى الطائفية الكبرى حق الفيتو. وقد ظهر أثر ذلك بوضوح في العام 2011، حين انسحب وزراء «الثنائي الشيعي» ومعهم حلفاؤهم من حكومة سعد الحريري، فسقطت الحكومة دستوريًا باستقالة الثلث+1. لكن خلفية هذا السقوط لم تكن منفصلة عن اتفاق الدوحة؛ إذ وفّر الاتفاق أرضية قانونية – سياسية للاستخدام المنظم للثلث المعطّل بوصفه ضمانة ميثاقية، وأصبح الانسحاب وسيلة إسقاط شرعية لا مجرد خطوة احتجاجية.
آب 2025: الميثاقية وسلاح حزب الله
عاد النقاش حول سلاح حزب الله ليضع الميثاقية أمام اختبار جديد. فالقضية هذه المرة تتصل بجوهر السيادة: هل يمكن حصر السلاح بيد الدولة؟
أقرّ مجلس الوزراء في 5 آب تكليف الجيش إعداد خطة عملية لحصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية. النصاب كان مكتملًا، لكنّ وزراء«حزب الله» و«أمل» انسحبوا من الجلسة عند بدء النقاش بالخطة، معتبرين أن القرار بلا توافق وطني. بدا واضحًا أن الميثاقية ستستخدم كسلاح سياسي لعرقلة التنفيذ.
بعد يومين، حضر الوزراء الشيعة بداية الجلسة ثم انسحبوا مرة أخرى عند مناقشة تفاصيل الخطة. الحكومة واصلت النقاش وأصدرت قراراتها، لكن الانسحاب أسقط الغطاء الطائفي. فعلى الورق، القرارات نافذة وقابلة للنشر، لكن هذا الانسحاب حوّلها الى قرارات غير ميثاقية ، حتى من دون مساس بالنصاب العددي.
في هذا السياق يقول الدكتور خالد قباني: "إن جلسات حكومة الرئيس نواف سلام دستورية، فمجلس الوزراء عين وفق الأصول الدستورية، وجلساته وفق أحكام الدستور، وهو ما يعني أن وجود هذه الحكومة وقراراتها دستورية. وعندما نذكر الدستور تسقط كل الحجج الأخرى، إلا إذا كان البعض يريد التعامل معها على أنها غير دستورية، وهو ما يجعل جميع وزراء الحكومة إلى أية جهة انتموا غير شرعيين". يضيف قباني: "إذا انسحب وزراء من خارج الطائفة الشيعية أو السنية أو المارونية من جلسات الحكومة احتجاجاً على قرار معين، هل تصبح الحكومة غير شرعية ؟ "
دلالات الانسحاب
قانونيًا: لا شيء يتغيّر. النصاب قائم، والقرارات صحيحة.
سياسيًا: يفقد القرار شرعيته الوطنية، ويصبح مادة نزاع داخلي. وفي بلد محكوم بالتوازنات الطائفية، يُترجم ذلك عمليًا تعطيلاً للتنفيذ.
بهذا المعنى، باتت الميثاقية أشبه بحق «فيتو» غير مكتوب، يسمح لأية طائفة بتعطيل أي قرار استراتيجي لا يلقى قبولها.
الميثاقية سيف ذو حدين
من هنا فإن الميثاقية تحمي المكونات من التهميش وتفرض شراكة فعلية، لكنها أيضًا تجعل أي قرار رهينة الانسجام الطائفي. فالأقلية قادرة على تعطيل الأغلبية بحجة فقدان الغطاء الوطني. في قضايا وجودية مثل سلاح حزب الله، تتحول الميثاقية إلى أداة تحصين موقف سياسي. فالانسحاب لا يسقط النصاب، لكنه يمكن أن يشلّ الدولة. وهو ما يفضح التناقض العميق بين نصوص الدستور وروح النظام اللبناني القائم على التوافق.
الميثاقية لم تُكتب في الدستور، لكنها كبرت في أحضان الأزمات. من انسحاب الوزراء الشيعة في العام 2006، إلى أحداث 7 أيار 2008 واتفاق الدوحة، إلى سقوط حكومة سعد الحريري في العام 2011، ثم أزمات 2025، يتضح أنها تحوّلت من شعار إلى آلية تعطيل حقيقية.
في لبنان، لا يكفي الدستور ليحكم الدولة. فالميثاقية، بما هي ترجمة للتوازن الطائفي، تفرض نفسها بوصفها شرطاً فوق دستوري. وهي في الوقت نفسه صمام أمان للعيش المشترك، ومصدر شلل دائم لمؤسسات الدولة. وبين هذين الوجهين يعيش النظام في حلقة مفرغة، حيث يظلُّ كل قرار مصيري معلّقًا على كلمة السر الطائفية.
إبراهيم الرز - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|