حسابات الحرب ولعبة الوقت..
يزور رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو البيت الأبيض، حيث يجتمع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب للمرّة الرابعة خلال الأشهر الثمانية الأولى من بدء الولاية الثانية لترامب. فالزيارة الأولى كانت في الثالث من شباط، وكانت أول زيارة لمسؤول أجنبي بعد عودة ترامب العاصفة إلى المكتب البيضاوي. وسيتّوج الرئيس الأميركي لقاءه الرابع بنتنياهو بإعلانه إنهاء حرب غزة وفق مشروعه الذي يتضمن 21 بنداً.
ترامب ووفق أسلوبه الذي تميّز به، باشر التمهيد لنجاح مبادرته عبر الدعوة للإستعداد «لحدث إستثنائي في الشرق الأوسط». وتابع قوله بأنّه وللمرّة الأولى هنالك فرصة حقيقية لتحقيق إنجازات، وصفها بأنّها «عظيمة». ووفق التسريبات، فإنّ خطة ترامب شارك في هندستها كل من صهره الموفد السابق إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر ورئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير. وتلحظ في بعض جوانبها، تدمير كل الأسلحة الهجومية لحركة «حماس»، وتشكيل إدارة فلسطينية للقطاع مؤلفة من تكنوقراط مع لحظ دور للسلطة الفلسطينية، ونشر قوات دولية على حدود قطاع غزة. وبتعبير آخر، فإنّ هذه الخطة تكرّس خروجاً نهائياً لإيران من غزة، وبالتالي من الساحة الفلسطينية، مع التزام السلطة بتعاون أمني كامل في الضفة تحت هذا العنوان، مقابل التزام إسرائيل بعدم اجتياحها. وفي حال سلكت الأمور المسار المرسوم لها، فإنّ البدء بتطبيق الإتفاق، وبالتالي إعلان وقف الحرب، سيحصلان في غضون أسبوع على أبعد تقدير.
وهذه الأجواء التفاؤلية كانت بدأت بالظهور خلال الأسبوعين المنصرمين. ووفق ذلك ساد التفاؤل أعضاء المجموعة العربية والإسلامية بعد لقائها بترامب في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ووفق هذه الحسابات، إضافة إلى التوجس الذي ساد العواصم الخليجية إثر استهداف الدوحة، ما دفع السعودية إلى الإعلان عن معاهدة أمنية مع باكستان، ارتفع منسوب التفاؤل بأنّ صفحة الحرب التي أشعلت ساحات المنطقة طوال العامين الماضيين، قد تمّ طيّها نهائياً. وليس مستبعداً أن يكون هذا الجو التفاؤلي قد لفح طهران نفسها، وهو ما سمح لها باستعادة سياسة إعلامية هجومية، وهو ما ظهر أيضاً عبر حليفيها: الحوثي في اليمن، و«حزب الله» في لبنان. إلّا أنّه وبشيء من التدقيق، تبدو مختلفة. فصحيح أنّ معاودة استهداف إيران عسكرياً أصبحت بعيدة نوعاً ما، لكن هذا لا ينطبق بالضرورة على ساحات نفوذها في المنطقة. لا بل على العكس، فإنّ إقفال حرب غزة سيمنح الفرصة لتل أبيب وواشنطن لاستكمال مشروع لإخراج النفوذ الإيراني من لبنان، وهو ما تعنيه فعلياً «فلسفة» مشروع ترامب في غزة. فالموافقة على تدمير السلاح الهجومي لحركة «حماس» وإنهاء سيطرتها العسكرية وحتى السياسية على القطاع، يعنيان ضمناً تعميمها على الجبهة الرديفة، والمقصود هنا لبنان. وربما لذلك أكثر الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك من تصريحاته حول «الخط الأحمر» الأميركي، أي نزع سلاح «حزب الله»، ومرفقاً ذلك بتحذيرات مبطنة. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة عودة العقوبات القاسية على إيران كخطوة رادعة، خصوصاً أنّها تهدّد بدفع الإقتصاد الإيراني نحو الإنهيار. فطهران باتت تواجه احتمال «صفر صادرات نفطية»، وهو ما سيؤثر على الصين أيضاً.
قبل ذلك حصلت مفاوضات إسرائيلية ـ سورية سرّية ومكثفة للتوصل إلى اتفاقات أمنية. وقيل إنّ الإعلان عن التوصل إلى هذه التفاهمات تُعَرقل بسبب الممر «الإنساني» في اتجاه السويداء الذي تطالب به إسرائيل. لكن ثمة تسريبات حول تفاهمات حصلت حول كثير من البنود، منها ترك ممر جوي عبر سوريا إلى إيران، ما يسمح مستقبلاً بحصول هجمات جوية إسرائيلية، إضافة إلى نقاط أمنية استراتيجية إسرائيلية على قمم جبل الشيخ. ولم تكن مجرد مصادفة أن يعلن الرئيس السوري احمد الشرع خلال وجوده في نيويورك عن عدوين اثنين: إيران و«حزب الله». وهو ما يعطي إشارة حول خلفيات بعض بنود الإتفاق الأمني وأهدافه.
وخلال الأسبوع الفائت أرسلت إيران رسائل عدة عبر صندوق البريد اللبناني: الأولى كانت من خلال الإحتفال بإضاءة صخرة الروشة، ومفادها أنّها لا تزال في بيروت، وأنّها لن تخرج منها. والثانية كانت مع زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني لحضور (أو الأصح رعاية) الذكرى السنوية الأولى لغياب السيد حسن نصرالله. والثالثة جاءت عبر الكلمة المكتوبة للأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، والتي جاء فيها: «لقد تعافينا (أو بما معناه بتنا على استعداد للمواجهة)، لن نسمح بنزع السلاح (بما يحاكي بنود اتفاق غزة)، وسنواجه مواجهة كربلائية لأننا في معركة وجودية (وهو ما يعني رفع مستوى المواجهة إلى الحدّ الأقصى وعلى طريقة إما النصر أو الموت). ومن الواضح أنّ إيران ترفع مستوى المواجهة. البعض يضع موقفها في سياق تجميع الأوراق القليلة التي باتت تمتلكها لمواجهة ضغوط العقوبات والإتفاق حول النووي، والبعض الآخر يذهب أبعد عبر اعتقاده أنّ إيران لا تريد الخروج أبداً من ساحات نفوذها، ولا سيما منها لبنان مهما كان الثمن، وما بات يصلح على غزة لا يصلح بالضرورة على لبنان.
لكن ثمة قراءة مقابلة لا بدّ من أخذها في الإعتبار. فما من شك أنّ النقطة القوية التي لعبت في مصلحة إسرائيل في حربها على «حزب الله» منذ سنة كانت نجاحها بالخديعة. فهي أوهمت الجميع بأنّها في موقع الدفاع والخوف من فتح الجبهة، في وقت ظهرت الحرب وفق سياق مختلف. وفي الأمس، تحدث نتنياهو عن ضرب «حزب الله» للذهاب إلى مفاوضات مباشرة مع لبنان. وهنا يمارس رئيس الحكومة الإسرائيلية خديعة جديدة تهدف لتكبيل أيدي لبنان بغية عدم تطبيق الإتفاقات. فهو يريد إبقاء باب الحرب مفتوحاً، ما سيسمح له بشن الحرب الواسعة في التوقيت الذي يريده، وبذريعة أنّ لبنان لا يطبّق الورقة الأميركية. وهو ما يؤكّد أنّه يريد حرباً جديدة في لبنان. فخطة ترامب في غزة ستؤدي في حال تطبيقها إلى إشعال نزاع داخل الحكومة الإسرائيلية ما سيهدّد بفرطها. وهو ما سيُلزم نتنياهو المحشور لإرضاء وزراء اليمين المتشدّد بحرب جديدة عنوانها «القضاء على حزب الله». وكذلك فإنّ ترامب الساعي إلى لي الذراع الإقليمية لإيران نهائياً، يجد نفسه متحمساً لإنجاز هذه المهمّة. وفي وقت باشر الجيش الأميركي في تعزيز قواته في الصومال لمنع الحوثيين من احتمال تهديد الملاحة البحرية مجدداً، زادت الطائرات الأميركية من مهمّاتها الرقابية في سماء الشرق الأوسط. وكشفت أوساط مطلعة في واشنطن، أنّ إسرائيل طلبت من الإدارة الاميركية مساعدتها في إقناع دمشق بالسماح لها بإنشاء موقع عسكري عند إحدى التلال السورية المحاذية للحدود مع لبنان والقريبة من البقاع الشمالي، والذي سيتضمن مهبطاً لمروحيات عسكرية، وأنّ هذا الموقع سيساهم في درء المخاطر الأمنية عن سلطة دمشق. ومن الواضح أنّ إسرائيل تريد استخدام هذا الموقع لتنفيذ إنزالات في البقاع الشمالي لتدمير أهداف لـ«حزب الله»، وفق ما يعتقده المراقبون العسكريون بأنّ أي حرب جديدة على «حزب الله» لن تؤدي إلى نتيجة حاسمة من دون حصول إنزالات جوية، تشكّل بديلاً من التقدّم البري. لكن واشنطن أبدت إعتقادها بأنّ دمشق لن توافق على الطلب الإسرائيلي. أضف إلى ذلك، أنّ نتنياهو الذي يمنع إعادة أي عملية بناء للمنازل في القرى المدمّرة في جنوب لبنان، يريد تعزيز فرص تثبيت حدوده مستقبلاً حتى نهر الليطاني، وهو ما جاهر به أكثر من مرّة، مع الإشارة هنا إلى أنّ النقاط العسكرية الإسرائيلية في الجنوب زادت وأضحت 7.
وقبل ذلك خرج الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من لقائه مع نظيره الأميركي بأجواء تفاهمية وتفاؤلية. لا بل إنّه نال موافقة واضحة لتزويده طائرات أميركية متطورة. وهو ما يدفع إلى إستنتاج أنّ الظروف باتت تلعب أكثر لمصلحة شروع تل أبيب وواشنطن لإخراج إيران كلياً من شرق المتوسط.
هنالك قول مأثور فارسي يقول: «ما بين عمود وآخر فسحة قد يأتي منها الفرج». وهو السلوك الذي اشتهرت به إيران باستهلاك كل الوقت، وانتظار الفرص والمفاجآت لاستغلالها وتوظيفها لمصلحتها. وقد تكون إيران تراهن على مستجدات داخلية إسرائيلية، وأيضاً أميركية، ستعمل لفرملة المشروع الكبير الجاري، والقاضي بإخراجها من المنطقة. لكن سياسة النَفَس الطويل لم تلعب دائماً في مصلحة طهران. وكان آخرها مع ولاية الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، حين عملت على استهلاك الوقت واستنفاده في مفاوضاتها النووية. لكن، وحين قرّرت الدخول في الإتفاق بعد نحو سنة، كانت ظروف بايدن الداخلية قد أصبحت مختلفة، لا بل معاكسة، ما جعل طهران تخسر الفرصة التي سنحت. وبالتالي، هل سيلعب الوقت هنا لمصلحة طهران؟ أم إنّه سيعاكسها مرّة جديدة؟
جوني منير - الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|