الصحافة

هل أطلق بارّاك “غزوة” الرّوشة؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أعادت تصريحات المبعوث الرئاسي الأميركي توم بارّاك فتح الجدل بشأن الغثّ والسمين في موقع الولايات المتّحدة من أزمات الشرق الأوسط. أجرت الصحافية الأميركيّة الشهيرة هادلي غامبل مع بارّاك مقابلة بثّتها قناة سكاي نيوز عربيّة قبل أيّام. قدّم الرجل هذه المرّة مزيجاً من المواقف الشخصيّة والتأمّلات السياسيّة التي تكشف تماماً عن المزاجيّة الأميركيّة، أكثر ممّا تعكس ثباتاً واستقراراً ونضجاً في إدارة الدبلوماسيّة لدولة عظمى هي الأقوى والأكثر نفوذاً.

يبوح بارّاك بالسرّ الذي يجده اكتشافاً: “السلام في المنطقة وهم”، والشرق الأوسط لم يعرف سلاماً يوماً، وربّما لن يعرفه، لأنّ “الجميع يقاتلون من أجل الشرعيّة”. وإذ نفى وجود توافق مصالح لبلاده مع أيّ من دول المنطقة، حتّى مع إسرائيل نفسها، عاد ليؤكّد أنّ إسرائيل “تحتلّ مكانة خاصّة في قلب أميركا”. هذه هي أميركا تماماً. الكثير من الخفّة المفترض أن نعتبرها من الأعراض الجانبيّة للإدارة في واشنطن.

إشارات عشوائيّة

داخل بارّاك شيء من شرق يسري في دماء المتحدّر من زحلة. في عينه الشرقيّة يرى أنّ العالم يتغيّر. في عينه الأميركيّة يقلّل من قيمة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، معتبراً الخطوة “عديمة الفائدة وغير فعّالة”. فإذا كان الأمر تافهاً وهامشيّاً إلى هذه الدرجة، فلماذا جنّ جنون نتنياهو وصحبه؟ ولماذا تعاملوا مع ما هو “عديم الفائدة” كتهديد وجوديّ؟ لا شيء يفسّر موقف واشنطن من خلال بارّاك إلّا التماهي التامّ مع موقف إسرائيل التي تنكر وتنفي ولا تريد أن تؤمن أنّ العالم يتغيّر.

تبرّع بارّاك بإعطاء اللبنانيّين إشارات عشوائيّة طرب لها كثيرون حتّى “الحزب” ومنابره. ذهب “الحزب”، مستفيداً من تخبّط واشنطن ومبعوثها، إلى الحدود القصوى في تحدّي الدولة والعواصم الإقليميّة والدولية التي تشدّ من عضد هذه الدولة ونفّذوا “غزوة” الروشة بعد 17 عاماً من “غزوة” بيروت في “7 أيّار” الشهير. أصغت طهران إلى مواقف مبعوث واشنطن، فاستيقظ المرشد على أهميّة “الحزب”، ووعد زعيم برلمان إيران باستمرار تدفّق الأسلحة باتّجاهه.

منح بارّاك طهران وحزبها العذر لعدم احترام دولة لبنان. برّر غياب “الحافز” لقبول “الحزب” بتسليم سلاحه. ثمّ أخبرنا أنّه على مرأى من هذا العالم يتسلّم “الحزب” تمويلاً شهريّاً يقارب 60 مليون دولار. لفت إلى أنّ رواتب مقاتليه تفوق بأضعاف رواتب الجيش اللبناني، فضلاً عن الخدمات الأساسيّة التي يديرها في بيئته. وأكّد أنّ الولايات المتّحدة فشلت طوال 47 عاماً في إضعاف “الحزب”، وأنّها لن تتدخّل عسكريّاً في هذا الملفّ (متى حدث ذلك؟).

بدا مستسلماً واقعيّاً قدريّاً ناحباً. لكنّه من جهة أخرى، دعا إلى “قطع رؤوس الأفاعي”، في إشارة إلى “الحزب” وإيران. وفي هذا التناقض ما يعكس ارتباكاً عميقاً في الرؤية الأميركيّة، بين براغماتيّة الإقرار بالوقائع وعداء أيديولوجيّ معلن.

تجاهل بارّاك البعد الإيرانيّ المباشر في سلاح “الحزب”. تضخّمت آلة “الحزب” وهياكله وطموحاته وتهوّره في ظلّ اتّفاق فيينا النوويّ عام 2015. سمحت “الصفقة” لإيران بتوسيع نفوذها في “الهلال” الممتدّ من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. لكنّ المبعوث الأميركي اختار تحميل لبنان مسؤوليّة إخفاق الدولة في احتكار السلاح. وهو تفسير لا يصمد أمام وقائع يعرفها الجميع. هو نفسه يتحدّث عن تواضع قدرات الجيش اللبنانيّ وانخفاض سقف أيّ أسلحة تُقدّم لهذا الجيش. وهو نفسه من لم يأتِ على ذكر عجز بلاده عن الضغط على إسرائيل لسحب ذرائع “الحزب” المرتبطة بالاحتلال.

تمرين ارتجاليّ

ليس الرجل دبلوماسيّاً مهنيّاً، بل يأتي من دائرة أصدقاء ترامب المقرّبين، على غرار جاريد كوشنر وستيف ويتكوف ومسعد بوبس. بدا أنّ واشنطن تنبّهت لشطط فسارعت إلى تعيين مورغان أورتيغاس نائبة له في الملفّ اللبنانيّ. ظهرت إخفاقاته أيضاً في عجزه عن إقناع إسرائيل بتقديم تنازلات تسهّل على بيروت تبرير خطّتها لحصر السلاح بيد الدولة، وفي فشله بفتح مسار جدّي في السويداء في سوريا. حتّى إنّ حكمت الهجري رفض خططه. جعل السياق من صدقيّته موضع نقاش، وبدت تصريحاته أقرب إلى تأمّلات شخصيّة منها إلى مواقف رسمية.

يرى مراقبون أنّ حديث بارّاك عن “وهم السلام” هو محاولة لإعفاء واشنطن من مسؤوليّتها عن تعطيل التسويات. يكشف الرجل عن المزاجيّة التي تطبع إدارة ترامب: دعم معلن للجيش اللبناني يقابله تسليم بقدَريّة سلاح “الحزب”، وانتقاد لفظيّ لنتنياهو يقابله تبنٍّ فعليّ لرؤيته، وحديث عن “غياب الحلفاء” يقابله تمسّك استثنائيّ بإسرائيل.

قد لا تعبّر “تأمّلات” بارّاك عن سياسة أميركيّة متماسكة. وقد لا تعدو كونها تمريناً ارتجاليّاً يمارسه رجل ثريّ صديق للرجل الثريّ الذي يحكم أميركا. في كلامه ارتجال من خارج المؤسّسة يحمل تصوّرات أقرب إلى الانطباعات منها إلى المواقف الرسمية. لكنّ الفداحة تكمن في أنّها تصدر عن مبعوث رئاسيّ، فتُقرأ في المنطقة باعتبارها نافذة على المزاج الأميركي الحاليّ: مزاج يجمع بين الإعجاب غير المعلن بنتنياهو، والعجز المعلن عن مواجهة “الحزب”، والاستخفاف بقيمة الاعتراف بفلسطين.

غير أنّ شيئاً كثيراً يجمع بين المبعوث ورئيسه في الطباع. فقد انقلب ترامب قبل أيّام على موقفه من حرب أوكرانيا وبات “مقاتلاً” إلى جانب فولوديمير زيلينسكي يَعِدُ أوكرانيا بالتحرير. والأمر لا يعدو كونه “فشّة” خلق من ترامب الغاضب من “صديقه” بوتين الذي خذله وحرمه من بركة نوبل وجائزته التي تبتعد يوماً بعد آخر.

محمد قواص - أساس ميديا 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا