أحمد الشرع… بين الواقع والتشبيه بـ"كوهين": قراءة في التاريخ والمخطط
بين مبادرة ترمب وردّ حماس... هل ينجو لبنان من ارتدادات الإقليم؟
منذ إعلان حركة "حماس" موقفها من مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، بدا المشهد الإقليمي أمام مفترق جديد، تتداخل فيه الحسابات السياسية والعسكرية مع التوازنات الداخلية للدول المعنية بالصراع، وفي مقدمها لبنان، الذي كما تأثّر بالحرب الإسرائيلية على غزة، عندما فتح "حزب الله" جبهة الإسناد الشهيرة، لا يمكن إلا أن يتأثّر بأيّ تطوّر يطرأ على خطّ الحرب اليوم.
فبينما أعلنت الحركة قبولها المبدئي بالمبادرة ضمن صيغة مشروطة، أكّد "حزب الله" دعمه الواضح لموقفها، مشددًا على أنّ الردّ الفلسطيني جاء منسجمًا مع ثوابت المقاومة، ومعبّرًا عن حرصٍ على وقف العدوان مع التمسّك بالحقوق الوطنية. ودعا جميع الدول العربية والإسلامية إلى الوقوف خلف الشعب الفلسطيني وموقف حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية كافة، ودعمها على جميع الأصعدة لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية.
لكنّ هذا التلاقي بين الحزب والحركة لا يُقرأ بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع، وعن الانعكاسات المباشرة التي قد تطال لبنان، سواء عبر احتمال التهدئة الذي يقول البعض إنّها ستكون شاملة على مستوى المنطقة، بعد سنتين من الحروب المتنقلة، أو عبر تصعيدٍ جديد يضعه مجددًا في قلب العاصفة، في ظلّ توجّس البعض من احتمال أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في صدد إطلاق الحرب على لبنان من جديد.
صحيح أنّ الردّ الذي صدر عن "حماس" كان مختصرًا في الشكل، لكنه بالغ الدلالة في المضمون، إذ اختارت أن تخاطب واشنطن مباشرة، ما أعطاها مساحة سياسية جديدة وأعاد إدخالها في دائرة الفعل الإقليمي. كما أنّ قبولها بالمبادرة من حيث المبدأ، مقابل إطلاق الأسرى ووقف الحرب، وضع الكرة في ملعب الإدارة الأميركية، وأحرج حكومة بنيامين نتنياهو التي يُعتقَد أنها كانت تراهن على الرفض لتبرير استمرار الحرب حتى تحقيق "أهدافها الكاملة".
هذه المقاربة بدت، بحسب مراقبين، أقرب إلى "تكتيك تفاوضي ذكي" أكثر منها إلى تنازل جوهري. فالحركة تركت المسائل الخلافية الكبرى، مثل مستقبل سلاحها ودورها في غزة، إلى مرحلة ثانية، واضعة بذلك واشنطن وتل أبيب أمام اختبارٍ مزدوج: إما القبول بوقف النار والدخول في مسار تفاوضي، أو تحمّل تبعات إفشال المبادرة. ومن هنا، يمكن فهم موقف "حزب الله" الذي سارع إلى دعم حماس علنًا، معتبرًا أن موقفها يعكس التمسك بالثوابت الفلسطينية والوحدة الوطنية، ويرفض أي وصاية خارجية على القرار الفلسطيني.
الحزب، في بيانه، دعا الدول العربية والإسلامية إلى دعم الشعب الفلسطيني ومنع تهجيره وإعادة إعمار القطاع، في رسالة مزدوجة الاتجاه: الأولى سياسية موجّهة إلى حلفائه في المحور، والثانية إلى المجتمع الدولي بأن الموقف من غزة ليس مجرد تضامن عاطفي بل التزام استراتيجي. فالمعادلة التي حاول "حزب الله" تكريسها خلال الأشهر الماضية تقوم على ترابط الجبهات، وعلى أنّ أي تسوية في غزة لا يمكن أن تمرّ من دون مراعاة ميزان القوى الذي فرضه محور المقاومة في لبنان وسوريا واليمن والعراق.
من هنا، فإنّ لبنان، وفق معظم التقديرات، هو أكثر الساحات تأثراً بمآلات المبادرة وردّ "حماس". فنجاح خطة وقف الحرب في غزة لا يعني بالضرورة استقرارًا في الجنوب، بل قد يفتح الباب أمام ضغوط سياسية ودبلوماسية غير مسبوقة. وترى بعض الأوساط اللبنانية أنّ وقف الحرب في غزة قد يُترجم بتشديد الضغط على "حزب الله" عسكريًا، وحتى داخليًا لدفعه إلى تنازلات تدريجية، تحت عنوان "تثبيت الاستقرار" وإعادة الاعتبار لسلطة الدولة.
على الضفة المقابلة، يتخوّف مراقبون من أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يسعى إلى تصدير أزمته مجددًا نحو لبنان، عبر توسيع نطاق الاستهدافات أو خلق ذريعة أمنية جديدة لإعادة إشعال الجبهة. ويستند هؤلاء إلى مؤشرات عدة، أبرزها التصعيد الإعلامي الإسرائيلي في الأيام الأخيرة، وتسريبات عن استعدادات عسكرية "تحسّبية" في الشمال، وهي إشارات تُقرأ في بيروت على أنها جزء من "حرب الرسائل" بين تل أبيب ومحور المقاومة.
في هذا السياق، تبدي أوساط قريبة من الحزب قناعةً بأنّ مرحلة ما بعد غزة لا يمكن أن تُبنى على معادلات قديمة، وإن كان الحزب لا يخفي رغبته في تجنّب حرب جديدة، انطلاقًا من إدراكه العميق لحجم الأعباء التي خلّفتها المواجهة السابقة، التي لم يستطع أن ينهض من صدماتها بعد، في وقت تدرك القوى السياسية اللبنانية أنّ أي انزلاق جديد نحو الحرب سيكون كارثيًا على الداخل ككلّ، ولا سيّما أنّ البلد لم يتعافَ بعد من آثار الحرب السابقة.
اللافت في المشهد أنّ كل الأطراف تتعامل اليوم مع مرحلة غموض إستراتيجي، فبينما تراهن واشنطن على أن ردّ "حماس" سيطلق مسارًا تفاوضيًا طويل الأمد، تراهن طهران على أن الوقت كفيل بإعادة ترتيب الأوراق بما يضمن استمرار نفوذ محور المقاومة في المنطقة. أما لبنان، العالق في منتصف هذا التجاذب، فيحاول أن يحمي نفسه من الانزلاق مجددًا نحو النار، في ظل إدراك سياسي متزايد بأن أي حرب جديدة لن تكون كسابقاتها، وأن أثمانها ستكون باهظة على الجميع.
في المحصلة، تبدو الساحة اللبنانية أمام مفترق دقيق: فإما أن تنجح مبادرة ترمب في فتح باب تهدئة شاملة تتيح للبنان التقاط أنفاسه، أو أن تعود المنطقة إلى دوامة التصعيد، بما يعيد فتح الجبهة الجنوبية من جديد، وسط تصاعد الخشية من أن يلجأ نتنياهو إلى المغامرة الأخيرة للهروب من أزماته الداخلية. وفي الحالتين، يبقى لبنان، كما كان دائمًا، المرآة الأكثر حساسية لتقلبات الإقليم، ومقياسًا دقيقًا لقدرة العالم على الخروج من منطق الحروب نحو منطق التسويات.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|