نازحون منسيّون في المدارس... حربهم لم تنتهِ بعد
قد يظنّ البعض أنّ المدارس خَلَت من النازحين، لا سيّما أنّ العام الدراسي انطلق. لكن بعض المدارس، ومنها في مدينة صور، لا تزال تأوي نازحين من قرى الضهَيرة، يارين، علما الشعب، وحولا... وغيرها. هؤلاء يتشاركون مع التلاميذ جزءاً من ساعات النهار، لكن بصمت يُخفي صرخة مكبوتة.
يستقبل هؤلاء الذكرى الثانية لتهجيرهم من قراهم بفعل حربٍ مدمّرة، بمعاناة تغذّيها شحّ المساعدات الإغاثية المفترض أن تدعم صمودهم. أمّا غياب الكهرباء والمرافق الصحية المناسبة، فتصعب حياتهم، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء. واستناداً إلى ظروف معيشتهم، الحرب لم تنتهِ بعد.
انتهى الكلام
بابتسامة كبيرة يستقبل النازحون في إحدى المدارس الرسمية في صور، زوّارهم. وبإصرار على تقديم الطعام والشراب للضيوف، يبدأ الحديث عن "قلّة الحِيلة". وإلى حين وصول فنجان القهوة، تكون ذكريات قطاف موسم الزيتون في قرية الضهيرة، قد انسابَت على لسان ابن البلدة غازي الغريِّب الذي نَزَحَ إلى صور تحت زخّات الرصاص الإسرائيلي في 8 تشرين الأول 2023.
رحلة النزوح مستمرّة منذ ذلك التاريخ، ومعها تتواصل المعاناة التي ازدادت يوماً بعد يوم، حتّى "حَلَّ التعّب وانتهى الكلام"، وفق ما يقوله الغريّب في حديث لـ"المدن".
في بداية الرحلة، جاءَت المساعدات الإغاثية من الجمعيات المحلية والمنظمات الدولية، حتى خُيِّلَ للبعض "أننا نعيش سعداء في مراكز النزوح"، لكن الحقيقة مختلفة تماماً. ومع الوقت، أخذت المساعدات تتقلّص، حتى انعدمَت بعد وقف إطلاق النار، إذ اعتبرت الجمعيات والمنظّمات الدولية أنّ الحرب انتهت ولم يعد هناك نازحين. أمّا النتيجة الراهنة، فهي نازحون يتشاركون المدرسة مع التلاميذ.
يضحك الغريّب ساخراً من الأوضاع التي يعيشها، فيقول "ابنتي تتعلّم وتسكن في المدرسة". ويشرح أنّ ابنته ذات الأعوام الأربعة "تظنّ أن المدرسة هي بيتها. فهي لا تذكر المنزل في القرية، إذ خرجنا وكان عمرها سنتين، وكبرت في المدرسة"، لكنّ ابنه ذو الأعوام الستّة "أكثر إدراكاً لما نعيشه".
المساعدات الإغاثية كانت ملائمة في البداية، لكنها باتت لزوم ما لا يلزم لأنّها لا تلبّي احتياجات النازحين. وعلى سبيل المثال "فرش الإسفنج التي وزّعتها المنظمات والجمعيات منذ سنتين، تقلّص حجمها وباتت رفيعة، والنوم عليها لا يختلف عن النوم على الأرض مباشرة"، على حدّ تعبير "أبي محمّد" النازح من بلدة الضهيرة أيضاً.
الأدوية بالنسبة إلى أبو محمّد، ضرورية جداً "لكنّها تتوفّر بصعوبة". ليست هذه الأزمة الوحيدة للنازحين في المدارس. فيشير أبو محمّد إلى الحمّام الوحيد في نهاية الرواق، ويقول لـ"المدن" إنّ "أكثر من 50 شخصاً يضطرّون للوقوف بالطابور لدخول الحمّام، خصوصاً في الصباح". أمّا الأطفال فيستحمّون في أوعية بلاستيكية داخل الغُرَف". وعن الأطفال، تستفيض إحدى النازحات في شرح المعاناة، وتوضح أنّ ما تعانيه النسوة وأطفالهنّ "صعب جداً. وتحديداً لجهة النظافة الشخصية". ويزيد فصل الشتاء الوضع سوءاً "فكيف سيمضي الأطفال فصل الشتاء من دون مياه ساخنة، وكيف سيدرسون بلا كهرباء؟".
لم يعودوا نازحين
ظروفهم القاسية وغياب أي رعاية رسمية، لم تشفع لهم في اجتذاب مَن يخفِّف عنهم عذابهم الذي لم يتصوّروا يوماً أنّهم سيعيشونه بعد أنّ كانوا أصحاب منازل وأراضٍ يزرعونها. فبعد وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2023، حوَّلَت المنظّمات والجمعيات والدول أنظارها عن الجنوب. "ومن دون قرار رسمي، نُزِعَت صفة النازحين عن هؤلاء الموزّعين في المدارس ومراكز اللجوء"، وفق ما تقوله مصادر متابعة لملف النازحين في منطقة صور. وتشير المصادر في حديث لـ"المدن"، إلى أنّه "لا نازحين رسمياً اليوم. كما أنّ وزارتيّ التربية والداخلية طلبتا إخلاء المدارس، لكنّ تنفيذ القرار جُمِّد انطلاقاً من أمر واقع يقول باستحالة إخراج النازحين من المدارس، فكان الحلّ الأنسب هو تقاسم المبنى مع التلاميذ والإدارة".
رغم الواقع، لا يزال عدد من النازحين "يسألون اتحاد بلديات صور عمّا يمكن تأمينه من مساعدات"، على حدّ تعبير رئيس الاتحاد حسن دبوق، الذي يشير في حديث لـ"المدن"، إلى أنّ "المساعدات اليوم محدودة جداً". ومع تخطّي الملف صلاحيات اتحاد البلديات، يواصل الاتحاد تقديم ما يتوفّر له "وفق الأولويات التي تتقدّمها الحالات الخاصة، كالمعوّقين والمقعدين والحالات الصحية الصعبة". ويرى دبوق أنّ الاتحاد في هذا الملف يعيش "حالة صعبة. فالمساعدات محدودة وبعض النازحين لا يدرك ذلك، وما على الاتحاد إلاّ استيعاب معاناتهم".
آخر مساعدة إغاثية حصل عليها النازحون في مراكز صور، كانت "منذ نحو 6 أشهر. مع أنّ بعض المساعدات تأتي بشكل متكّرر إلى مركز اتحاد بلديات صور، ويحصل عليها أشخاص ليسوا من النازحين المقيمين في المدارس"، وفق ما يهمس به النازحون الذين يوضحون أنّ "المساعدات تذهب لبعض أبناء مدينة صور والقرى المجاورة". في حين "توضح المصادر أنّ "تلك المساعدات كانت مقَرَّة للنازحين خلال الحرب التي اندلعت بين أيلول وتشرين الثاني 2024، وتأخّرَ وصولها إلى النازحين في حينها، ويحصلون عليها اليوم رغم أنّهم عادوا إلى بيوتهم". على أنّ هذا التبرير لا يقنع النازحين، وبرأيهم "الأولوية لمن لا يزال في المدارس، بمعزل عن أي اعتبار آخر، لأنّ الحرب بالنسبة لنا لم تنتهِ".
خضر حسان - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|