الصحافة

لبنان بين ساعة الحقيقة وخيارَي الحرب والتفاوض

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أقدم الرئيس جوزاف عون على خطوةٍ غير مألوفة في المشهد اللبنانيّ، إذ قرّر أن يقتحم منطقةً سياسيّةً حسّاسة طالما تجنّبها الآخرون، متقدّماً في ملفّ التفاوض مع إسرائيل بخطوةٍ وُصفت بالجريئة. 
لم يكن الأمر مجرّد مبادرةٍ تقنيّة أو أمنيّة، بل تحوّلٍ في مقاربة الدولة لملفٍّ يختصر أحد أهمّ الأزمات التي تواجه حاليّاً الكيان اللبنانيّ. وهذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل من إدراكٍ لثلاث حقائق باتت واضحة لا لبس فيها.
أوّلها، أنّ ملفّ السلاح بلغ جداراً مسدوداً. فـ"حزب الله" أعلن موقفه النهائيّ، رافضاً أيّ بحثٍ في تسليم سلاحه أو إعادة تنظيمه إلّا بعد تحقيق شروطٍ شبه مستحيلة على أرض الواقع: وقف الاعتداءات الإسرائيليّة، انسحابها من الجنوب، انطلاق إعادة الإعمار، ثم إدراج الموضوع في إطار استراتيجيّة أمنٍ وطنيّ شاملة. 
بهذا الموقف، أُغلِق باب الحوار الثنائيّ بين بعبدا والحزب، ووُضعت الدولة أمام خيارين. إمّا المضيّ في تنفيذ خطّة حصر السلاح ومواجهة تداعياتها، أو تجميد الملفّ والاكتفاء بالقرارات الشكليّة. 
وإزاء الانسداد الكامل، برزت الحاجة إلى مسارٍ ثالث يفتح ثغرة في الجدار المقفل.
وثانيها، أنّ لبنان - والرئيس تحديداً - لم يعد يحتمل الدوران في حلقة الشلل والمراوحة. فقد دخل العهد باكراً في مرحلة استنزافٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ قاسية، بعدما رُبط كلّ شيء بملفّ السلاح وتحوّل الانقسام حوله إلى قيدٍ يكبّل إنطلاق الدولة وإعادة البناء. ومع تصلّب الحزب وتصاعد ضغوط الداخل والخارج، وجد الرئيس نفسه أمام خسارةٍ من رصيده السياسيّ والشعبيّ، ما دفعه إلى التحرّك لاستعادة زمام المبادرة ومحاولة إنقاذ وطنه وعهده من الانحدار إلى المجهول.
أمّا الحقيقة الثالثة، فهي أنّ الإقليم دخل فعلاً مرحلة إعادة تموضعٍ كبرى. فما يجري اليوم يتجاوز وقف النار في غزّة إلى رسم معالم شرقٍ أوسط جديدٍ تُطوى فيه صفحة الحروب وتُفتح صفحة التسويات. من الرياض إلى القاهرة فعمّان، تسود لغة المصالح، فيما تمضي واشنطن في خطّةٍ شاملة لإعادة تركيب المنطقة. 
ولبنانيّاً، ووفق واقع الأمور، لن يشهد انسحاباً إسرائيليّاً من الجنوب، ولن تتوقّف الهجمات ما لم يُحسم ملفّ السلاح، وما لم تُستحدث ترتيباتٌ جديدة تقدّم الضمانات المتبادلة لبيروت وتل أبيب. 
والعالم، بما فيه أصدقاء لبنان، لن يشارك في إعادة الإعمار أو ممارسة ضغطٍ على إسرائيل، طالما أنّ الحزب متمسّك بسلاحه والدولة تُحجم عن مواجهته.
في هذا المناخ، أدرك عون أنّ لبنان لا يمكن أن يبقى على هامش التاريخ، وأنّ غيابه عن مشهد التسويات سيحوّله من طرفٍ فاعل إلى مجرّد ملفٍّ يُدار من الخارج. لذا أراد بمبادرته، ولو رمزيّاً، أن يدخل لبنان في معادلة السلام بدل تركه رهينة الحروب المؤجّلة...أو الواقعة حتماً.
هكذا دخل لبنان سباقاً حادّاً بين حربٍ قد تكون إسرائيل تُحضّر لها بدقّة بعد إقفال ملفّ غزّة، ومفاوضاتٍ يحاول لبنان طرحها لتجنّب الحرب وفتح كوّةٍ في جدار الانسداد.
وفي خضمّ هذا السباق، اشتعلت الساحة اللبنانية نقاشاً وتكهّناً. هل يحدث التفاوض؟ هل يكون مباشراً أم غير مباشر؟ سياسيّاً أم أمنيّاً؟ وما حدوده ونتائجه المحتملة؟ 
لكنّ الرئيس نبيه برّي وضع حدّاً للسجال بكلمةٍ واحدةٍ مقتضبة: "الميكانيزم". 
بكلمةٍ واحدة، نعى المسار التفاوضيّ بعدما أبلغت إسرائيل الموفد الأميركيّ طوم بارّاك رفضها للمبادرة برمّتها.
وللدقّة، من الصعب أو المستحيل أن يسقط مبدأ التفاوض في النتيجة، والرفض الإسرائيليّ له كان موجّهاً  للمقترح الأميركيّ القاضي بإطلاق مسارٍ تدريجيٍّ يبدأ بوقفٍ شاملٍ للنار لشهرين، يتبعه انسحابٌ من الأراضي المحتلّة تمهيداً لترسيم الحدود. غير أنّ تل أبيب قد تكون رأت في ذلك تساهلاً أو توازناً أو انقلاباً في التراتبيّة، وأصرّت على أن تكون نقطة الانطلاق هي نزع سلاح الحزب، باعتبارها المدخل الوحيد لأيّ تفاوضٍ هادفٍ ومباشر نحو سلامٍ مستقبليّ، أو أنّها في الأصل، لا تريد أن تقيّد ذاتها بنتائج مفاوضات في هذه المرحلة بالذات. 
هنا، جاء كلام الموفد الأميركيّ بارّاك ليضيف بعداً أكثر خطورة. فقد كشف أنّ واشنطن قدّمت ما سمّته "المحاولة الأخيرة"، وهي خطةٌ لنزعٍ تدريجيٍّ للسلاح تحت إشرافٍ أميركيٍّ وفرنسيٍّ مباشر. لكنّ لبنان، كما قال، رفض الخطّة بسبب نفوذ "حزب الله" داخل الحكومة. وأضاف: "إنّ نزع سلاح الحزب هو فرصة لبنان للتجدّد، لاستعادة السيادة وفتح باب الانتعاش الاقتصادي. أمّا إذا لم تتحرّك بيروت، فسيواجه الجناح العسكريّ للحزب حرباً كبرى مع إسرائيل في لحظةٍ من قوّةٍ إسرائيليةٍ وضعفٍ إيرانيٍّ غير مسبوق، وسيجد جناحه السياسيّ نفسه أمام عزلةٍ متزايدة مع اقتراب انتخابات أيار 2026".
تحذير بارّاك بدا أقرب إلى إنذارٍ ميدانيٍّ مغلّفٍ بالدبلوماسيّة. إن لم تُنفّذ الدولة اللبنانيّة حصر السلاح بالسياسة، فستُفرض عليها النتيجة بالقوّة. فواشنطن تعتبر أنّ الشرق الأوسط بعد قمة شرم الشيخ دخل مرحلة إعادة تشكّلٍ كبرى، وأنّ على لبنان أن يترجم هذا التحوّل باحتكار السلاح وبانخراطٍ تدريجيٍّ في مسار المفاوضات كي لا يبقى أسير "مرحلة الحرب".
لقد ضاقت هوامش المناورة، وتقلّصت مساحة الغموض البنّاء، وبات لبنان أمام ساعة الحقيقة. إمّا قرارٌ وطنيٌّ شجاع يواكب التحوّلات بعقلانيّة وواقعيّة، يحفظ المصالح اللبنانيّة من دون استسلام، وإمّا عاصفةٌ إسرائيليّةٌ - أميركيةٌّ مقبلة ستُعيد صياغة المعادلة اللبنانيّة من جذورها.

"أنطوان العويط"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا