إقتصاد

محاصرة الاقتصاد النقدي ومعاناة اللبنانيين

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود : 

أعلن مصرف لبنان يوم الجمعة 14 تشرين الثاني 2025، فرضَ إجراءات احترازية على جميع المؤسسات المالية غير المصرفية المرخّصة من قبله بما في ذلك شركات تحويل الأموال، وشركات الصرافة، وغيرها من الجهات التي تقوم بعمليات التداول بالأموال النقدية من العملات الأجنبية وتحويلها من لبنان وإليه. وقد أثار هذا الإعلان موجةً من التساؤلات حول تبعات هذا الإجراءات والجدوى من تطبيقها في ظل الظروف المالية الحرجة التي يمر بها البلد. 
أهداف التعميم ومراحله

ويهدف التعميم الذي يُعَدُّ خطوة أولى ضمن سلسلة إجراءات مرتقبة إلى منع انتقال الأموال غير المشروعة أو المكتسبة بطرق غير قانونية عبر هذه المؤسسات، وتعزيز بيئة الامتثال داخل القطاع المالي، والتشدد في الإجراءات على جميع الأشخاص المعنويين والطبيعيين المشاركين في العمليات النقدية، وصولاً إلى المستفيدين النهائيين، الأمر الذي يُساعد على رفع اسم لبنان عن اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، التي أُدرِجَت عليها في عام 2023 بسبب ثغرات في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

وبحسب إعلان مصرف لبنان، فإن المرحلة اللاحقة ستشمل تطبيق إجراءات احترازية إضافية على المصارف التجارية، بما يؤدي إلى إقامة طبقات متعددة من الضوابط ونقاط التدقيق الرامية إلى الكشف عن الأموال غير المشروعة واحتوائها، ومنع تداولها عبر النظام المصرفي وشبكات القطاع المالي. ومن المتوقع أن تضطلع لجنة الرقابة على المصارف بدور أساسي في مراقبة تطبيق هذه الإجراءات ومدى التزام هذه المؤسسات بها، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق الجهات التي لا تلتزم بالمعايير المطلوبة. 

اقتصاد الكاش، نتيجة لا السبب 
وتجدر الإشارة إلى أن توسع اللبنانيين في الاعتماد على التداول النقدي، وما نتج عنه من اقتصاد موازٍ يُعرف بـاقتصاد الكاش، جاء نتيجة مباشرة لامتناع المصارف منذ عام 2019 عن تلبية حاجات المودعين والقطاعات الإنتاجية، وتعليق معظم خدماتها الائتمانية. ولولا الاقتصاد النقدي، لما تمكن اللبنانيون من الاستمرار في الحد الأدنى من أنشطتهم الاقتصادية، ولا من مواجهة الانهيار المالي الذي قضى على قدرتهم الشرائية. بل يمكن القول إن التداول النقدي ساهم، إلى حدٍّ ما، في تأمين هبوط آمن نسبياً للاقتصاد وضمان الحد الأدنى من دوران العجلة الاقتصادية في غياب النظام المصرفي.

في المقابل، يرى صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد النقدي يشكل "تطبيعاً مع الأزمة" وليس مساراً نحو الاستقرار، وفقاً لما جاء في تقرير له عن الاقتصاد اللبناني صدر ربيع عام 2023. يعتبر الصندوق أن توسع الدولرة النقدية يعمّق الانكماش، ويحد من فعالية السياسات المالية والنقدية، ويزيد من مخاطر غسل الأموال، ويُفاقم التهرب الضريبي، ويعزز الاقتصاد غير الرسمي على حساب الاقتصاد المنتج.
تساؤلات حول فعالية الإجراءات

وإذا كانت الحاجة ماسة للحد من اقتصاد الكاش وتحقيق الانتظام المالي، فإن تشديد إجراءات الامتثال على التحويلات المالية وصولاً إلى مبلغ ألف دولار أميركي، في وقت لم يعد هذا المبلغ يكفي لتغطية نفقات عائلة صغيرة لمدة شهر، يثير تساؤلات حول جدوى هذه القيود. لا سيما أن القانون اللبناني يسمح للقادمين والمغادرين بحمل مبلغ خمسة عشر ألف دولار أميركي دون التصريح عنه للسلطات المختصة عند المعابر الحدودية، ما يخلق فجوة في المنطق التنظيمي ويضعف فعالية الرقابة.

أما الرهان على تجفيف مصادر تمويل حزب الله عبر تشديد الامتثال، فيبدو رهاناً غير واقعي، لأن شبكات التمويل العابرة للحدود أكثر تعقيداً من أن تعالجها استمارات وإجراءات رقابية منفردة في القطاع المالي اللبناني. فلقد طوّرت هذه الشبكات خلال السنوات الأخيرة أدوات بديلة عن القنوات المالية التقليدية، مستفيدة من التطبيقات المالية الحديثة ومنظومات الدفع الرقمية، ولا سيما العملات المشفّرة التي تتيح درجة عالية من السرية وصعوبة التعرّف عليها عبر الحدود وتتفادى الرقابة المصرفية التقليدية. 

ويطرح هذا الواقع سؤالاً إضافياً: هل تبرر الاستجابة لضغوط الوفد الأميركي المشترك من وزارة الخزانة الأميركية ومجلس الأمن القومي، الذي جال في بيروت مطلع الأسبوع الماضي، ما قد تسببه الإجراءات الجديدة من إرهاق إضافي للبنانيين؟ ولا سيما منهم الطبقة المتوسطة التي تعتمد على تحويلات أبنائها في الخارج. 

تأخر الاصلاحات
ويبقى السؤال الجوهري: أين أصبحت خطة إصلاح القطاع المصرفي؟ فالتداول النقدي ليس سبب الأزمة، بل نتيجة مباشرة لانهيار الثقة بالمصارف. وكان الأولى أن يوجه مصرف لبنان جهوده نحو إعادة هيكلة المصارف، وتحديد حجم الخسائر، وحماية حقوق المودعين، والعمل على إعادة بناء الثقة بالنظام المالي ليعود اللبنانيون إلى إجراء معاملاتهم عبر المصارف بدل حمل الحقائب النقدية. فعندها فقط يمكن للإجراءات الجديدة الخاصة بالامتثال ومكافحة الأموال غير المشروعة أن تحقق أهدافها المرجوة ضمن بيئة مصرفية سليمة.

الإصلاحات قبل التضييق على الناس
إن الإجراءات الاحترازية الجديدة تشكل خطوة ضمن مسار طويل ومعقد نحو تحسين الامتثال المالي في لبنان، لكنها تبقى ناقصة ما دامت لا تترافق مع إصلاح جذري للقطاع المصرفي يعيد الثقة المفقودة. فاقتصاد الكاش ليس خياراً، بل نتيجة لتعثر المصارف وعزوفها عن القيام بتمويل الاقتصاد الوطني. 

وأي تدابير تُتخذ خارج إطار خطة شاملة لإعادة هيكلة المصارف قد تزيد الضغط على اللبنانيين بدل أن تعالج أصل المشكلة. المطلوب خطة متكاملة توازن بين مكافحة الأموال غير المشروعة، وتسهيل حياة المواطنين، وإعادة بناء النظام المصرفي على أسس متينة تضع لبنان على طريق التعافي الحقيقي.

وتظل الإجراءات التنظيمية ناقصة ما لم تُدرج ضمن رؤية شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني، وتحديث الإطار الرقابي، واستعادة القدرة على المساءلة والمحاسبة، وتنفيذ سياسات مالية ونقدية فاعلة. وبذلك، يصبح الامتثال المالي أداةً للنهوض وليس مجرد استجابة لضغوط خارجية أو محاولة تقنية لاحتواء اقتصاد نقدي هو في الأساس نتاج انهيار مؤسساتي عميق.
 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا