لحسابات لبنانية حذرة
يترقّب لبنان الإجتماع الرباعي الذي سيُعقد في باريس يوم الخميس المقبل، والذي ستشارك فيه فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والسعودية، ويحضره قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل، والمخّصص للبحث في عقد مؤتمر دعم الجيش. ويحمل هيكل معه ملفاً كاملاً متكاملاً حول المهمّات التي نفّذها الجيش، وأدّت الى تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة التي وضعها، وتحمل عنوان حصر السلاح بيد الجيش اللبناني دون سواه. ذلك أنّ التأخير في مؤتمر دعم الجيش سببه اشتراط الدول المانحة تطبيق قرار «حصرية السلاح» قبل القيام بأي خطوات داعمة.
وخلال الأشهر الماضية، نجحت إسرائيل في التشويش على عمل الجيش والتشكيك بصدقية ما يقوم به، وهو ما أدّى إلى إجهاض الزيارة الرسمية الأولى التي كان العماد هيكل ينوي القيام بها إلى واشنطن، في حادثة شكّلت سابقة في تاريخ العلاقات المميزة بين واشنطن واليرزة. وترافق ذلك مع مراوحة في الدعوة لانعقاد مؤتمر دعم الجيش خلافاً للوعود السابقة، والتي كانت لحظت في مؤتمر روما برنامجاً أولياً لمساعدته للسنوات العشر المقبلة، ينطلق في السنة الأولى ببرنامج دعم يناهز المليار دولار.
وقد سعت باريس جاهدة لتبديد الأجواء السلبية التي نشرتها إسرائيل، وتضمنت تشكيكاً بعمل الجيش اللبناني. لكن، وإثر الهزّة التي أحدثها تقويض زيارة هيكل لواشنطن، عمدت قيادة الحيش إلى إبراز الخطوات التي قامت وتقوم بها. وجاءت في هذا السياق الجولة الميدانية لوسائل الإعلام، والتي هدفت للكشف على ما تحقق.
وقبل سفر قائد الجيش إلى باريس، من المفترض أن يجول سفراء وملحقون عسكريون لنحو 60 دولة وجّهت الدعوات لهم، على أنفاق ومستودعات أسلحة ضبطها الجيش في منطقة جنوب الليطاني. وسيعلن هيكل في اجتماع باريس، أنّ هذه المنطقة ستصبح «نظيفة» كلياً مع نهاية السنة، وهي المدة التي كان التزم بها، ولكن مع إستثناءين: الأول، عدم انسحاب إسرائيل من المواقع الخمسة التي تحتلها داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما سيشاهده بالعين المجرّدة الوفد الديبلوماسي الذي سيجول جنوباً، والمخيمات الفلسطينية، حيث أنّ حركة «حماس» والفصائل التي تدور في فلكها، لم تلتزم بوعودها التي قطعتها للبنان عبر السفارة الفلسطينية. وهذا ما دفع الجيش إلى إحكام الطوق حول هذه المخيمات، عبر إغلاق كل المسارب الجانبية التي كانت تُستخدم كمداخل غير منظورة إلى المخيمات، في انتظار القرار السياسي بالدخول اليها ولو بالقبضة العسكرية، بدءاً من مخيم الرشيدية. كما سيعرض هيكل عدم التزام إسرائيل بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، وسيطلب من الدول الراعية له إرغامها على القيام بما هو مطلوب منها. أما في موضوع الإنتقال إلى المرحلة الثانية أي شمال الليطاني، فإنّ قائد الجيش سيعرض للصعوبات الكبيرة وال.
وفي جلسة الخامس من كانون الثاني، سيطلع هيكل مجلس الوزراء على كل ما تحقق، معلناً إتمام المرحلة الأولى من البرنامج، والانتقال إلى المرحلة الثانية، شرط حصول الجيش على دعم ملحّ.
لكن الصورة الدولية ليست بهذا التبسيط. فالمشهد الإقليمي لا يزال يخضع لتجاذب، لا بل لنزاع عنيف، بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، فوق منطقة النفوذ في الشرق الأوسط، والجاري إعادة ترتيبها. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الكلام العالي السقف للأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في إطلالته الأخيرة. ففي وقت اعتبر البعض أنّ قاسم ارتكب خطأ بإعلان تمسّكه النهائي بالسلاح، في وقت تعمل إسرائيل على تحضير الأجواء الدولية لضربة جديدة تنوي توجيهها إلى لبنان، فإنّ البعض الآخر قرأ فيها رسالة إيرانية موجّهة بكل وضوح إلى واشنطن، بأنّ استبعاد إيران من الورشة الكبرى الجاري ترتيبها في الشرق الأوسط، ستعمد طهران إلى مواجهتها عبر كل ما تبقّى من أوراق قوتها في المنطقة. ما يعني أنّ خطاب قاسم كان «خطأ» مقصوداً ومحسوباً. فإيران التي كانت طمأنت عبر قاسم في وقت سابق سكان المستوطنات الشمالية لإسرائيل بالتزام أن تكون منطقة جنوب الليطاني منزوعة السلاح، وهو ما يعني عملياً فك الإرتباط العسكري مع الجبهة الشمالية لإسرائيل، لا تزال متمسكة بحضورها المؤثر على الساحة اللبنانية وتالياً عند الشاطئ اللبناني، والذي يشكّل جزءاً أساسي.
ومن البديهي الإستنتاج، أنّ إيران التي «خسرت» غزة وحضورها القوي من خلال حركة «حماس» التي ورثتها تركيا، وخسرت الحضور العسكري الإقليمي الكبير لـ«حزب الله»، وخسرت أيضاً حضورها في سوريا، بعد أن تكبّدت أثماناً كبيرة ولسنوات طويلة لمنع نظام بشار الأسد من السقوط، لن تقبل بكل بساطة بهذه النتيجة بعد عقود عدة من الأثمان الباهظة. لكن واشنطن ومعها العواصم الحليفة في المنطقة مصرّة على إبعاد إيران عن الشاطئ الشرقي للمتوسط، وهو ما يعني إخراج النفوذ الإيراني من لبنان.
ومن هذه الزاوية يمكن إدراج التقاطع الحاصل ما بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لدفع لبنان إلى واقع ميداني جديد وإنجاز تسوية سياسية جديدة، ولكن عبر حماوة تأتي من خلال حرب «جراحية». لكن الدوائر الأميركية تدرك جيداً أنّ لنتنياهو أهدافاً أبعد من تلك التي تتوخاها واشنطن في المرحلة الحالية. والمشهد في سوريا يؤكّد ذلك. فاليمين الإسرائيلي الذي يستعد لانتخابات داخلية صعبة، بات متّهماً على مستوى قواعده الناخبة، بأنّه لم يحقق الأهداف الإستراتيجية التي يصبو إليها، كمثل تهجير الفلسطينيين من غزة وإحكام السيطرة الإسرائيلية على الضفة، وأيضاً القضاء على التهديد العسكري الذي يمثله «حزب الله»، ودفع سوريا ولبنان إلى التفتيت عبر تثبيت خريطة جغرافية جديدة. ولذلك تخشى بعض الدوائر الأميركية من أن يعمد نتنياهو وتحت ستار الحرب المندلعة، إلى تقويض الركائز الضعيفة للدولة اللبنانية، وإثارة مشكلات داخلية تلاقي المشكلات التي تعيشها سوريا. ومن هنا تخوفت هذه الأوساط من أن يعمد نتنياهو إلى تنفيذ عمليته العسكرية قبل ذهابه للقاء ترامب للمرّة الخامسة في أقل من سنة، لوضعه أمام الأمر الواقع. وقد يكون إرسا.
فترامب وبالتفاهم مع دوائر صنع القرار الأميركي، يريد رسم الخطوط الحمر أمام أي عملية عسكرية إسرائيلية، لجهة عدم تعريض ما تبقّى من ركائز الدولة اللبنانية لأي استهداف. ذلك أنّ وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت ركّزت خلال الأسابيع الماضية على ما اعتبرته «تقاعس» الدولة اللبنانية عن نزع سلاح «حزب الله». وهو ما فُهم منه وكأنّه تحضير لتوجيه ضربة لها، غايتها الفعلية تقويض الدولة للذهاب في مسار آخر.
خلال زيارات نتنياهو الأربع السابقة لترامب، كان الملف اللبناني حاضراً في شكل أساسي في المحادثات، ولو أنّ ملف غزة كان يحتل صدارة الإهتمام. لكن وإثر كل زيارة، كانت الأحداث الكبرى تعصف بالمنطقة. وتكفي الإشارة إلى أنّ إطلاق الحرب المجنونة على لبنان حصل مع إغتيال السيد حسن نصرالله وخلال وجود نتنياهو في نيويورك. وهذا ما يدفع للتساؤل عن نتائج الزيارة الخامسة، مع ما يستوجب ذلك من حسابات لبنانية حذرة ومتأنية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|