باسيل ضحيّة تفاهم أميركيّ - إيرانيّ؟
مع الوقت تتضاءل أهميّة المشهد الداخلي في لبنان أمام المشهد الخارجي المحيط به، لا بل إنّ تفاصيل المشهد الداخلي تؤكّد هامشيّة اللاعبين المحليّين أمام تعقيدات الأحداث في المنطقة والعالم، باستثناء حزب الله الذي يتقدّم على الأفرقاء الآخرين في قدرته على الدخول في البازار الإقليمي والدولي، وإلا لكان أضعف ممّا هو عليه. أمّا قوّته الداخلية فمصدرها امتلاكه الفيتو الطائفي الأقوى، لا قدرته على تقديم الحلول أو فرضها إذا اقتضى الأمر، أي أنّ قوّته الداخلية سالبة وليست موجبة.
هذا الواقع تؤكّده الأحداث التي جرت وتجري محليّاً وإقليمياً، حتّى إنّ ملفّ التحقيق في تفجير مرفأ بيروت الذي يختزن فائضاً من المعطيات الداخلية نظراً إلى حقّ أهالي الضحايا وإلى حجم ارتداداته على واقع الاحتقانات السياسية والطائفية، سرعان ما تبيّن أنّ المعطى الرئيسي فيه خارجيٌّ ومتّصل بالضغط الأميركي للإفراج عن مواطن لبناني من أصل أميركي موقوفٍ قيد التحقيق، وهو محمد العوف الذي غادر لبنان فور الإفراج عنه، على الرغم من القرار القضائي بمنعه من السفر!
تواطؤ معقّد
هذا ما يحيل إلى تواطؤات ضمنيّة بين مجموعة مصالح داخلية وخارجية في هذا الملفّ. وربّما يكون أبرزها التواطؤ المعقّد بين حزب الله وأميركا، نظراً إلى حصول تقاطع بين مشكلات الحزب مع قاضي التحقيق في تفجير المرفأ طارق البيطار وبين الإفراج عن كلّ الموقوفين في القضية بقرار من مدّعي عامّ التمييز القاضي غسان عويدات، الذي كان رأس الحربة في المعركة القضائية والسياسية ضدّ البيطار.
فإذا كان استئناف البيطار تحقيقاته في جريمة 4 آب قد وُضع في سياق الضغط الأميركي على الوضع الداخلي، وبالتحديد على حزب الله، فسرعان ما تبيّن أنّ لواشنطن هدفاً محدّداً في القضيّة معزولاً تماماً عن دعمها البيطار أو عدم دعمه. وهذا بغضّ النظر عن الموقف الأميركي المتزامن مع استئناف البيطار تحقيقاته وحثّ السلطات على "استكمال التحقيق بأسرع وقت ممكن".
والحال هذه فإنّ الخلاصات الأساسية من المجريات القضائية الأخيرة في ملفّ تفجير المرفأ ليست قضائية بحتة، بل هي سياسية بالدرجة الأولى، وفحواها أنّ الساحة الداخلية باتت محكومة بالتقاطعات المعقّدة بين واشنطن وخصومها الداخليين، وفي طليعتهم حزب الله، أكثر منها بالمواجهة بينهما.
استاتيكو جديد
هذا الاستاتيكو الجديد لم يبدأ الأسبوع الماضي، بل إنّ ما جرى من "تقاطع قضائي" بين الحزب وأميركا في ملفّ المرفأ هو محطّة في مسار التقاطعات بينهما منذ توقيع لبنان وإسرائيل على اتفاقية الترسيم البحري بوساطة أميركية. وهو التوقيع الذي أرسى قواعد لعبة جديدة بين اللاعبين الخارجيين الأبرز على الساحة اللبناني: إيران والولايات المتحدة.
إذاً يكمن المعنى السياسي الأهمّ للتطوّرات القضائية في جريمة 4 آب في اختبار الحزب مرّة جديدة سقف المواجهة الأميركية ضدّه في لبنان، أي اختبر التزام أميركا بقواعد الاشتباك الجديدة التي أرساها اتفاق الترسيم البحري، وهي قواعد ستحكم لا محالة الانتخابات الرئاسية المعطّلة حتى الآن، ولذلك لا بدّ من النظر إلى الوتائر المتفاوتة للمواجهة بين واشنطن وطهران للتأكّد أكثر من طبيعة الاستاتيكو الجديد في لبنان. فإذا كان صحيحاً أنّ استهداف إسرائيل منشأة عسكرية إيرانية في أصفهان قد أتى بعد مناورة إسرائيلية - أميركية مشتركة ضدّ إيران، وفي ظلّ زيارة مسؤولَين أميركيَّين للمنطقة، فإنّ واشنطن سارعت إلى التنصّل من المسؤوليّة عن الهجوم من خلال إعلان مسؤولين أميركيّين لصحيفة "وول ستريت جورنال" أنّه "كان من فِعل إسرائيل"، وذلك بالتزامن مع نقل وزير الخارجية القطري رسائل من "أميركا وأطراف أخرى إلى المسؤولين الإيرانيين تتعلّق بموضوعات مختلفة"، وبالتحديد إحياء مفاوضات الاتفاق النووي، كما أشار وزير الخارجية الإيراني. وكلّ ذلك إن أكّد شيئاً فهو يؤكّد استعداد واشنطن المتواصل لتفعيل القنوات الدبلوماسية مع إيران. وهذا ما ينعكس بطبيعة الحال على الوضع اللبناني، وبالتحديد على ملفّ رئاسة الجمهورية، بوصفه ملفّاً عالقاً بين واشنطن وطهران.
الأسئلة المسيحيّة
تبقى قراءة التطوّرات السياسية الداخلية ناقصة وقليلة الجدوى إذا لم توضع في إطار المشهد الإقليمي والدولي، وبالتحديد في سياق وتائر المواجهة/المفاوضة بين إيران والولايات المتحدة. وينطبق هذا على أدقّ التفاصيل الداخلية بما في ذلك حركة رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل الذي من المحتمل جدّاً أن يكون الضحيّة الأولى للتقاطع الأميركي - الإيراني في لبنان الذي سيُنتج رئيس جمهورية جديداً، تماماً كما كان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ضحيّة التفاهم الأميركي - السوري في شأن لبنان بعد حرب الخليج الأولى.
لكنّ هذا التقاطع لا يعني أنّ حزب الله ومن خلفه إيران سيتّفقان بالضرورة مع واشنطن على اسم الرئيس الجديد، بل المقصود هنا أنّ الولايات المتحدة قد لا تمانع انتخاب رئيس يستطيع حزب الله التوصّل إلى انتخابه من دون أن يعني ذلك أنّها تؤيّده. وهذا سيناريو يصبح واقعيّاً أكثر كلّما استطال الفراغ وبات الوضع الداخلي مفتوحاً أكثر على احتمالات الفوضى الاجتماعية والأمنيّة، خصوصاً أن لا أحدَ في المنطقة والعالم يحتمل بؤرة عدم استقرار جديدة في الإقليم، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الملفّ الرئاسي يمكن أن يخضع لمنطق المقايضة بين واشنطن وطهران في مقابل ملفّات إقليمية أخرى، تماماً كما حصل عند تزامن التوقيع على اتفاق الترسيم مع تشكيل حكومة جديدة في العراق.
مؤتمر باريس والسعوديّة
أمّا محدودية النتائج المتوقّعة من مؤتمر باريس المزمع عقده هذا الشهر، فترجّح حصول سيناريو مماثل، نظراً إلى "البرودة" السعودية بشأن الوضع السياسي اللبناني. وهذا ما يقلّص من حجم الصدمة الإيجابية التي قد يُحدثها انتخاب رئيس جمهورية، باعتبار أنّ اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة تستبعد أكثر فأكثر أن يكون انتخابه نتيجة تسوية كبرى تنخرط فيها دول إقليمية ودولية توفّر دعماً ماليّاً للبنان، إلى جانب الدعم السياسي. وهذا واقع لا يبدّله تقدّم اسم قائد الجيش بين المرشّحين الرئاسيّين، ولا سيّما أنّ حركة رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط لطرح اسمه تحتاج إلى قراءة دقيقة، لأنّها تنطوي على استعجال في "تزكيته" في ظلّ عدم نضوج إشارات خارجية وداخلية كافية لصالحه!
إزاء ذلك كلّه لم تعد مواقف باسيل الجديدة ضدّ الحزب وقائد الجيش تعني الكثير سياسيّاً في ظلّ تبدّل قواعد اللعبة في لبنان، تلك القواعد التي يمكن الاستدلال عليها من موقف الحزب المنخفض السقف من الهجوم الإسرائيلي على مخيّم جنين في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، إذ يبدو أنّ الحزب وواشنطن ملتزمان بهذه القواعد التي لا تبدِّل فيها الكثير ممانعةُ باسيل لها أو رضوخُه لشروطها. لكن لا شكّ أنّ أسئلة كبرى ستُطرح في المرحلة المقبلة بشأن الوضع السياسي المسيحي، تماماً كما كانت الحال مطلع التسعينيّات، ولو تبدّل اللاعبون وتغيّرت الظروف!
إيلي القصيفي - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|