"الخادم الأول"
ما حصل بالأمس هو أنّ انتخاب الرئيس جاء بالفعل تعبيراً عن المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان والمنطقة. والمرحلة الجديدة، كما سبق ذكره في مقال سابق، هي انتهاء المفاعيل الواقعية لاتفاق القاهرة لعام 1969، أي استعادة الدولة وجيشها وحدانية الدور، وانتهاء تعليق اتفاق الطائف، أي وجوب تطبيق الإصلاحات الكبرى التي نص عليها الاتفاق وأدخلت في نص الدستور. وقد أشار الرئيس جوزف عون إلى ذلك بوضوح بقوله: "عهدي إلى اللبنانيين أينما كانوا، وليسمع العالم كله، أنه اليوم بدأت مرحلة جديدة من تاريخ لبنان".
لقد أتى الخطاب في عناوينه الرئيسية تعبيراً عن هذه المرحلة الجديدة. وكان لافتاً لمن لا يعرف شخص الرئيس، المزيج الفريد بين العناوين الكبرى، الطموحة والمفصلية التي تضمنها الخطاب، كحق الدولة في احتكار حمل السلاح وحماية لبنان واستعادة دوره ومكانته والعدالة والإدارة وغيرها من العناوين، التي عبّر عنها بأسلوب واضح وصادق يتضمن عزماً حقيقياً على التزام التنفيذ من جهة، وصفاته الشخصية والمناقبية، من جهة أخرى، والتي لخصّها الرئيس بعبارة واحدة هي أنه سيكون "الخادم الأول"، وذلك "للحفاظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني، وأن أمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة كحكم عادل بين المؤسسات".
هذه العبارة تُظهر الطريقة التي ينظر فيها الرئيس إلى نفسه ودوره، وتدلّ على مفهوم لم يَعتَدْه اللبنانيون في النظام القائم على السلطة التي تخدم المصالح الفئوية والزبائنية. وإذ بالرئيس اليوم يقول للجميع، وفي طليعتهم من انتخبوه، إنه الخادم الأول في الدولة، وهو التزام عميق للمفهوم الصحيح للخدمة العامة الذي افتقده اللبنانيون.
صفة الخادم الأول التي شاء الرئيس أن يطلقها على نفسه، تعني أن الرئيس يشغل المنصب الأول في الدولة ويرأس جميع سلطاتها، ولكن رئاسته هي خدمة عامة، بمعنى أنه سيكون الأول في الخدمة، أي المثال. وبالتالي على جميع من يتولى خدمة عامة بمن في ذلك أعضاء الحكومات والنواب والقضاة وسائر الوظائف العامة، أن يدركوا أن الخدمة العامة هي الأسلوب والنهج، وأن يكونوا على هذا المثال.
كان لافتاً أيضاً الحيز الكبير الذي أعطاه الرئيس في خطاب القسم للسلطة القضائية، وبدى واضحاً أن العدل والقضاء في طليعة اهتمامه، وهذا ينبع من اقتناع لديه بمحورية القضاء في بناء الدولة. وقد عبّر عن ذلك بالقول إنه "إذا أردنا أن نبني وطناً فعلينا أن نكون جميعاً تحت سقف القانون والقضاء". هذه القاعدة تتلاقى مع فكرة أساسية وردت في الخطاب حول أن مشكلة لبنان هي مشكلة حكم وحكّام، ومن المعلوم أن هذه المشكلة ليست إلا نتيجة طبيعية لغياب الرقابة ولاطمئنان الحاكمين على مرّ العقود إلى أنهم في منأى عن الرقابة القضائية وعن الملاحقة والمحاسبة، الأمر الذي تفاقم إلى أن وقع الانهيار الكبير. وبالتالي، إن مفتاح الحلّ يكون في إعادة القضاء إلى دوره وإقرار مبدأ دولة الحق والقانون التي لا يمكن أن تكون إلا بالقضاء الحقيقي المدرك لدوره والفاعل والمستقل والذي يمنع تحويل مواقعه إلى أدوات في صراع القوى الحاكمة وفي حماية أتباعها وملاحقة خصومها.
إن التركيز على القضاء والتعهّد بإعادته إلى مكانته ودوره، لا شك أنه أثلج صدور كثيرين، ولا سيما القضاة المستقلين الذين يشكلون أكثرية يعوّل عليها في بناء السلطة القضائية مع سائر الحقوقيين المؤمنين بهذا الدور. وهذه السلطة التي سوف تصدر التشريعات التي تضمن تكريس استقلالها كما تعهّد الرئيس، ستكون إحدى ركائز المرحلة الجديدة للبنان.
زياد شبيب -"النهار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|