“تكويعة” الشّرع؟
حسناً فعل قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع حين عبّر في مقابلة لافتة مع اليوتيوبر جو خطّاب عن أنّه يرفض مصطلح “التكويع”.
انتشر مصطلح “التكويع” في سوريا بعد سقوط النظام كتعبير شعبي ساخر لوصف الشخصيّات التي كانت مرتبطة بالنظام السوري أو مستفيدة منه ثمّ تحوّلت إلى الترحيب بسقوطه. وهو ينطوي على طعن في مصداقية هذه التحوّلات وما إذا كانت نتيجة قناعة جديدة أم مجرّد محاولة انتهازية للحفاظ على النفوذ في مرحلة من التغييرات الحادّة.
في المقابل طالب الشرع، بشكل غير مباشر، السوريين بأن يحسن بعضهم الظنّ ببعض، وأن يأخذوا بعين الاعتبار الدعاية الكثيفة للنظام ضدّ الثورة منذ عام 2011 وضدّ “طائفة بعينها” منذ أن تسلّم حافظ الأسد السلطة، قبل التشكُّك في وطنيّة الآخرين.
يعكس هذا المنطق وعياً لافتاً لتعقيدات الواقع السوري، ويفصح عن رهان الشرع على تجاوز الانقسامات والشروخ بين مواطنيه، آملاً أن يمهّد التخلّي عن شيطنة قاعدة النظام الاجتماعية لبناء مشروع وطني جامع، تحت مظلّة المصالحة.
قائد جميع السّوريّين
إلى ذلك، يعكس التماس الشرع، العذرَ لهذه الشريحة، سعيه لتعزيز شرعية مشروعه الجديد كقائدٍ يعبّر عن جميع السوريين، لا كزعيم لطرف ضدّ آخر، وهو ما يمنحه مساحة أوسع لتحقيق التوافق وإعادة بناء الدولة.
الأهمّ أنّ هذا الموقف يضاف إلى مواقف أخرى، تندرج في سياق ترسيخ التحوّل الأيديولوجيّ الذي مرّ به الرجل، منتقلاً من عباءة أبي محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة، إلى بزّة أحمد الشرع، السياسي البراغماتي الساعي خلف صورة ودور رجل الدولة.
وربّما جلّ الاتّصالات الدبلوماسية الجارية مع الشرع تدور حول التثبّت من حقيقة تخلّيه عن إرثه الجهادي لمصلحة رؤية تركّز على المؤسّسات والتنمية الاقتصادية والتواصل مع القوى الإقليمية والدولية. كما تسعى للجزم في ما إذا كانت سويّة الشرع الجديدة تنمّ عن إعادة صياغة شاملة للمشروع السياسي، أم هي مجرّد تبديل مؤقّت للخطاب.
في هذا السياق، تفيد حصيلة المباحثات المتعدّدة مع الشرع، أنّ الرجل يدرك إدراكاً تامّاً للعبء السياسي والأخلاقي الذي يمثّله إرثه الجهادي في سوريا وعلى الساحة الدولية. في المقابل، لا يمكن إنكار أنّ هذا الماضي هو ما مكّن الشرع من الوصول إلى مكانته الحالية، وهو ما يحدّ من قدرته على “خيانة” قاعدته الشعبية والجماهيرية ويفرض عليه بحثاً مضنياً عن خيط رفيع يربطه بها في حين يكمل، في الوقت نفسه، “تكويعته” المذهلة لكلّ المراقبين!
أيديولوجية… وشرعيّة وطنيّة واضحة
ليس التحوّل الذي يمرّ به أحمد الشرع ظاهرة فريدة في تاريخ التحوّلات الأيديولوجية. شهدت السياسة تحوّلات قادة مثل نيلسون مانديلا، وياسر عرفات، وقيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي، وآخرين ممّن انتقلوا من أدوار نضالية تحترف العنف إلى مشاريع سياسية براغماتية عابرة لخطوط الانقسام والصراع.
بيد أنّ ثمّة فوارق جوهرية بين تجربة الشرع والتجارب المُشار إليها، إن كان لناحية سياقات أو أهداف هذه التحوّلات، وهي ما تجعل من تجربته تدعو للمزيد من الترقّب.
قاد مانديلا نضالاً ثابتاً ضدّ نظام الفصل العنصري واضح المعالم في جنوب إفريقيا، في حين جسّد عرفات تطلّعات شعبه التحرّرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. أمّا الجيش الجمهوري الإيرلندي فقد قاتل لتحقيق استقلال قوميّ ضمن إطار أوروبي محدّد مع الفصل التامّ بين الجناحين العسكري والسياسي للحركة، وهو ما أتاح للأخير، أي “شين فين”، دخول مفاوضات السلام وتوقيع اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998.
في هذه الحالات جميعاً، كانت التحوّلات الأيديولوجيّة مدعومة بشرعية قضايا وطنية واضحة، وتحرّكات سياسية تتماشى مع اعتراف دولي قويّ بالقضايا التي يُدافع عنها.
الشّرع… وإرث التّطرّف الثّقيل
على النقيض، يواجه الشرع إرثاً مثقلاً بالتطرّف، يصعب تقديمه كخطاب شرعي، سواء محليّاً أو دوليّاً. فبينما تبنّى مانديلا وعرفات خطاباً وطنيّاً جمع شعبيهما حولهما، ولفترات طويلة جسّدا خلالها القضيّة الوطنية التي ينطقان باسمها، يجد الشرع نفسه مضطرّاً إلى إعادة بناء الشرعية من نقطة الصفر في بيئة منقسمة ووسط انعدام الثقة بين المكوّنات السورية.
ما يزيد من ارتباك تجربة الشرع، أنّ تحوّله يُقرأ في كثير من الأحيان على أنّه “تكويع” شامل عن عقيدة سابقة، بدلاً من كونه “تطوّراً”، طرأ على مشروعه السياسي مثل مانديلا وعرفات اللذين أُشيد بتحوّلاتهما كنموّ طبيعي من رحم القضية نفسها لكن نحو فضاءات سياسية أكثر نضجاً. وربّما من أبرز التحدّيات التي يواجهها الشرع بغية تثبيت دعائم “البراند” السياسي الخاصّ به.
إلى ذلك فإنّ الشرع مطالب ليس فقط بتحوّل ذاتي، بل بتقديم مشروع سياسي قادر على جذب أطياف واسعة من السوريين، بينما يواجه شكوكاً مستمرّة في دوافعه الحقيقية وقدراته على توسعة رقعة التغيير الأيديولوجي خارج شخصه أو المقرّبين منه.
الشرع أذهل الجميع، من دون أن يقنع كثيرين بعد. والتحوّل الذي يقوده يشكّل اختباراً قاسياً لقدرة القادة على إعادة صياغة هويّتهم السياسية في أكثر الظروف تعقيداً. نجاح مشروعه لن يُقاس بمدى قدرته على إقناع المراقبين فقط، بل بقدرته على تحويل شكوك الداخل والخارج إلى فرصة لصناعة إجماع سوري جديد يتجاوز الانقسامات العميقة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|