الصحافة

كيف أسقط نظام الأسد كتاب التاريخ الموحد في لبنان؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم يكن غريباً على جمهور ثورة 17 تشرين، العودة إلى ساحة الشهداء، للإحتفال بتكليف السفير نواف سلام، "مرشح الثورة" الدائم منذ خمسة أعوام لرئاسة الحكومة. الساحة، التي شهد محيطها ليلة 17 تشرين 2019، إطلاق رصاص من مواكب "وزارية"، لتنطلق بعده شرارة التحركات الشعبية والطلابية في المناطق كافة مطالبة بـ"لبنان الجديد"، ينتظر أبناؤها اليوم، تغييراً جذرياً في معايير اختيار وزراء التربية وأدائهم وإطلاق المحاسبة في وزارة التربية عما مضى، بعد عقود من التدمير الممنهج للوزارة وللتعليم الرسميّ. فهل يتحقق اليوم ما أرادوه أم يبقى جعجعة بلا طحين؟

أداء غالبية الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية منذ عقود، اتّسم بالهدر والفساد وتدمير القطاع الرسمي لصالح القطاع الخاص وتحديداً "كانتونات" المدارس الحزبية. والأعوام الخمسة الأخيرة من التعليم "المتقطع"، جراء كورونا والانهيار الاقتصادي والعدوان الإسرائيليّ الأخير، عمّقت انهيار مستوى التعليم الرسمي بشكل غير مسبوق، ليخسر الطالب 10 في المئة من دخله المستقبلي، وفق تقديرات البنك الدولي، فيما كان "الفاسدون" في وزارة التربية "يعتاشون" على هدر هبات دولية بملايين الدولارات سنوياً لوزارة التربية، والأساتذة والطلاب والقطاع التربوي برمته، يواجهون تحدي بقاء جودة التعليم.

هكذا تحولت وزارة التربية إلى "مغارة" علي بابا، لا تليق بصرح تعليمي يخرّج أجيال لبنان، ما يجعل "تحريرها" اليوم، لا يقل أهمية عن تحرير وزارة الطاقة. فالفساد ليس مالياً وحسب، بل يضرب نوعية التعليم وجودته، بل وقيم "المواطنة" نفسها.

ولأن المؤامرة قديمة و"مكملة"، نعود بالزمن إلى خفايا نسف كتاب التاريخ الموحد للبنانيين عام 2002. فكيف ضرب النظام السوري السابق قيَم المواطنة اللبنانية؟ وكيف تعمل الأحزاب اللبنانية اليوم على "تفخيخ" المناهج الجديدة؟ وما هي صفات وزير التربية "المنقذ" للقطاع التعليميّ؟

"تفجير المناهج" بمباركة من غازي كنعان

لطالما كانت صياغة كتاب تاريخ لبناني رسمي موحد، أشبه بمعضلة غير قابلة للتحقق. لكن ما خفي في وزارة التربية منذ عقود، يكشف أن الكتاب أنجز بالفعل، لكنه منع من الصدور!

العام 2002 تم نسف 12 كتاباً للتاريخ لجميع المراحل المدرسية: الأساسية، المتوسطة والثانوية. ومنعت من الطباعة، ونسف بالتالي، مشروع كتاب التاريخ الموحد في لبنان، لينضم بند جديد من بنود اتفاق الطائف، إلى عدم التطبيق.

ويكشف رئيس المركز التربوي للبحوث آنذاك، الدكتور نمر فريحة، بعد أكثر من 20 عاماً على هذه الفضيحة، السبب الحقيقي لتطيير المنهج آنذاك، وهو قرار لوزير التربية في حينه عبد الرحيم مراد.

يروي فريحة، كيف ألقيت مهمة تطوير مناهج العام 1997، وتحديداً، إصدار كتاب تاريخ موحد، على عاتق لجنة في المركز التربوي للبحوث والإنماء (المتخصص بتطوير المناهج) من خيرة أساتذة الجامعة اللبنانية، في طليعتهم الدكتور عصام خليفة، ووضع 12 كتاب تاريخ للمراحل كافة، وأنجزت بشكل كلي.

وكان إنجازاً متكاملاً، تناول حقبة الحرب الأهلية كاملة، (على عكس كتب التاريخ اليوم حيث يتوقف التأريخ فيها عند حقبة الاستقلال اللبناني عن الانتداب الفرنسي)، بل وصل التأريخ حتى العام 1999، وعلى الرغم من موافقة الحكومة آنذاك على كتاب التاريخ الموحد، استفز كتاب الصف الثالث في المرحلة الابتدائية، وزير التربية السابق عبد الرحيم مراد.

فكان مفهوم "استقلال لبنان"، وتعداد جميع حقبات احتلاله، "قميص عثمان" الذي تحجج به مراد، ليحرم إلى اليوم، الطلاب اللبنانيين من كتاب تاريخ موحد، ويكرس وخلفه كل الوزراء الذين لم يسعوا لإصدار كتاب تاريخ موحد بعده، ضياعاً في الهوية اللبنانية لدى الطلاب، مع عدم كتابة "تاريخ مشترك"، يتصالح من خلاله اللبنانيون، بعد حرب أهلية سقط فيها 150 ألف شهيد.

يضع فريحة تطيير مراد تلك الفرصة، في خانة "تبييض ماء الوجه مع النظام السوري آنذاك، لعلاقة مراد الممتازة مع غازي كنعان". عدا عن أن "النظام السوري نفسه، لم يكن من مصلحته إرساء قيم المواطنة لدى الأطفال اللبنانيين، وإنشاء جيل على فكرة استقلال لبنان".

فريحة الذي دفع ثمن إنجازه مهمة وطنية في حينه، تطيير الكتب، و"تطييره" هو الآخر من المركز التربوي، سيما مع رفضه إدخال أشخاص إلى لجان المركز التربوي، وفق عقود بأرقام خيالية، يراقب اليوم عن بعد، كيفية إقرار المناهج الجديدة، بروحية المحاصصة التي رفضها منذ 20 عاماً.

الأحزاب "تفخخ" المنهج الجديد

نظام الأسد عبر وزير التربية عبد الرحيم مراد، حارب كل أشكال تعزيز "المواطنة" في لبنان. فالمواطنة الحقة، ترفض كل أشكال الاحتلال.

أحزاب المنظومة الحاكمة، أخذت عن نظام الأسد ذلك الدور من بعده، فأضعفت المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية عبر ميزانيات هشة لها في الموازنات العامة، ودعمت من خلال منحها المدرسية لموظفيها بمن فيهم أساتذة التعليم الرسمي، المدارس الحزبية والطائفية والدينية، ما كرس تخريج جيل مدجن و"مقولب" على قياس أفكار آبائه الطائفية، عوض إصلاح ما هدمته الحرب في المنهاج التعليمي.

وصلت المحاصصة إلى ذروتها بعد انتخاب ميشال عون رئيساً ودخول التيار الوطني الحر إلى جانب تيار المستقبل وأمل والاشتراكي و"حزب الله"، معركة التقاتل على "مكاسب" وزارة التربية بمفهوم الأحزاب المحاصصاتيّ، ودوماً على حساب التعليم نفسه، وبقيت للحزب "الإشتراكي" حصة الأسد في وزارة التربية، حتى تحول مشروع تطوير المناهج التعليمية في المركز التربوي للبحوث والإنماء S2R2، الممول من البنك الدولي، بقرض وهبة بأكثر من 200 مليون دولار، إلى "تجرة"، إلى اليوم، عوض أن يكون فرصة للارتقاء بالمنهج التعليميّ.

سلّم وزير التربية عباس الحلبي، نسخة "الإطار الوطني اللبناني لمنهاج التعليم العام ما قبل الجامعيّ - المسودة الخامسة" للرئيس السابق ميشال عون في آخر عهده.

بعد وضع الإطار، تفرعت لجان لكتابة المناهج، عُين الكثيرون من أعضائها وفق المحاصصة الحزبية، كما كانت حصة لأساتذة مدارس خاصة، ما اعتبر اعتداء على سيادة المنهج الرسمي. أما الأخطر من ذلك، فكان إضافة مفردات "غب الطلب" لأحزاب سياسية، على حساب قيم المواطنة، وهو ما يعتبر حرفياً "تفخيخاً للمنهج الرسمي".

هذا ما أقر به صراحة، بيان رأي صادر عن المفتشة التربوية، فاتن جمعة، وصفت فيه العمل على المناهج بـ"الشكل الحالي هدماً لما تبقى من التربية"، و"ليس إنجازاً وطنياً". أما الأوراق المساندة للإطار الوطني للمناهج، فرأت أنها "تتضمن اقتراحات هدفها الوحيد تحقيق منافع شخصية لبعض المشاركين في اللجان، والسير بها يشكّل هدراً للمال العام".

والسؤال اليوم: هل يعاد النظر بهذا العمل بأكمله؟ وهل يحاسب المسؤولون عن هذا العمل عن هدر الأموال التي رصدت له؟

خسارة تتجاوز 250 مليون دولار!

سنوات الانهيار وإضرابات الأساتذة لتدني رواتبهم إلى حد لا يكفيهم بدل النقل، مثّل جريمة حقيقية بحق طلاب لبنان وأساتذته ومستقبلهم والاقتصاد اللبناني، وذلك لعقود قادمة، وبذلك تكون المنظومة قد دمرت جزءاً من مستقبل الجيل الجديد، حتى قبل أن يدخل سوق العمل، فكان الانهيار أعنف حرب - غير مسلحة - على طلاب لبنان ومستقبلهم ومستواهم التعليميّ.

وبالأرقام "من المتوقع أن يؤثر الفاقد التعلّمي الناجم عن تعطل قطاع التعليم، سلباً على الاقتصاد اللبناني لعقودٍ قادمة، ويؤدي إلى خسائر مستقبلية في دخل الطلاب المتضررين طوال حياتهم العملية".

أما إذا لم تتم معالجته، "فإن الفاقد التعلمي من الأعوام الدراسية الأربعة الماضية وحدها قد يؤدي إلى خسارة بنسبة 10 في المئة من الدخل المستقبلي على مدار الحياة العملية للطلاب المتضررين".

أما الفاقد التعلمي الإضافي الذي واكب السنة الدراسية 2022-2023 وحدها، فقد يزيد الخسارة بنسبة 3.8 في المئة، مما يؤدي إلى خسائر للاقتصاد اللبناني تتراوح قيمتها بين 217 و253 مليون دولار على مدار الحياة العملية لهؤلاء الطلاب، وذلك وفقاً لدراسة للبنك الدولي بعنوان "سنة أخرى ضائعة؟ تقدير التكاليف التعليمية والاقتصادية لإغلاق المدارس الرسمية في لبنان في 2022-2023".

أكذوبة "التعليم الجيد"

لأعوامٍ، "احتفى" بعض الأهالي بسياسة وزير التربية السابق الياس بو صعب، ومَن حذوا حذوه من الوزراء بتقليص أيام التدريس، التي كان يقصد منها تقليل ميزانية القطاع الرسمي على حساب جودة التعليم.

أما الإعلان مؤخراً عن فوز الجامعة اللبنانية بالمركزين الأول والثاني عن فئة "أفضل بحث علمي" في "مؤتمر الذكاء الاصطناعي"، فليس إلا صورة عن صمود الجامعة الوطنية بوجه محاولات تهميشها وتدميرها، التي بدأت منذ تسليم مجلس الوزراء صلاحية تعيين الأساتذة المتفرغين فيها، حيث غلب معيار التبعية السياسية على معيار الكفاءة.

من هنا، فإنّ الإصلاح في قطاع التربية، يتطلب وزيراً - أو وزيرة - أولويته - أو أولويتها - هي "أن نستثمر في العلم ثم العلم ثم العلم، وفي المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية وفي الحفاظ على التعليم الخاص وحريته"، تماماً كما جاء في خطاب القسم للرئيس جوزاف عون.

وزير يعيد للجامعة اللبنانية استقلاليتها، ويحرص على تأمين العلم للجميع، ومكافحة التسرب المدرسيّ بسبب الفقر المستجدّ، ويطلق يد المحاسبة في الوزارة عن جميع ملفات الفساد والهدر. ويقرّ بالتوازي، منهجاً رسمياً تعليمياً وطنياً، يخرّج طلاباً "وطنيين"، يؤتمنون على مستقبل لبنان، بغلبة الكفاءة لا المحسوبية.

فالعلم هو "سلاح" الجيل الجديد، الذي يحميه من الانتحار الذاتي، عبر التصويت كأسلافه في صناديق الاقتراع، لمنظومة تأبى إلا أن تطيل من عمرها، متحدية صيرورة المستقبل، برفض كتابة "كتاب تاريخ موحد" لجميع اللبنانيين!

فتات عيد-نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا