سوريا: الدين للّه، والوطن للعرب السنّة
دخل مسار التمييز ضدّ مسيحيّي منطقتنا طوراً جديداً مع الإعلان الدستوري السوري الذي صدر الأسبوع الماضي. يحدّد الإعلان الإسلام كدين لرئيس الدولة، كما يجعل الفقه المصدر الأساسي للتشريع. يعني هذا أنّ مسيحيّي سوريا، أو من لا يزال منهم فيها على الأقلّ، سيبقون كما كانوا دوما بظلّ الشريعة، مواطنين من فئة ثانية في عقر دارهم. على المستوى السياسي، حصر الرئاسة بالمسلمين - من دون تخصيص رئاسة الحكومة أو المجلس لسواهم، كما يفعل النظام اللبناني لضمان تمثيل الجميع - يعني ببساطة أن بإمكان سياسي فاسد، أو مجرم حرب، أن يصير رئيساً، لو كان مسلماً، ولا يمكن لمواطن سوري ناجح، ويحبّ بلاده، أن يطمح لنفس المنصب، لمجرّد أنّه "نصراني".
أمّا فرض الفقه كمصدر أساسي للتشريع، فيعني من ضمن ما يعنيه، أن بإمكان أي قاضٍ شرعي أن يلحق أطفالاً مسيحيّين بالدين الإسلامي بغضّ النظر عن إرادتهم، وإرادة والدتهم، إذا قرّر والدهم اعتناق الإسلام كي يتمكّن من الطلاق، والزواج مرّة ثانية. لا يخرق قضاة الشرع أيّ قانون عندما يقترفون ذلك لأنّ قرارات المحاكم الشرعيّة السوريّة، وبالاستناد إلى الشريعة، تشير صراحة إلى "وجوب تبعيّة الطفل لأشرف الوالدين ديناً" أي الإسلام بطبيعة الحال. ولا يفترق هنا القانون السوري للأحوال المدنيّة، عن القانون المصري، أو القانون العراقي الذي ينصّ صراحة بمادّته الـ 21 على أن "يتبع الأولاد القاصرين في الدين من اعتنق الدين الإسلامي من الأبوين".
وفي العراق أيضاً، لا يمكن لمسيحي أن يتبنّى طفلاً مجهول النسب إذ إنّ الطفل يعتبر حكماً مسلماً ما لم يثبت خلاف ذلك بحسب نصّ المادّة 45 من قانون الأحول المدنيّة، والأمر عينه صحيح بسوريا، وبدول عربيّة أخرى. وبالإضافة إلى كلّ ذلك، يترتّب على أيّ مسلم يغيّر دينه في سوريا (والدول العربيّة عموماً) تبعات خطرة مثل تفريق "المرتدّ" عن زوجه أو زوجته، فضلاً عن الحرمان من الميراث؛ والأمر غير صحيح بالمقابل عندما يتعلّق الأمر باعتناق "نصراني" الإسلام. وتماماً كما كان القانون القديم في ولايات الجنوب الأميركي يضع الرجل الأبيض فوق بالتراتبيّة المجتمعيّة، والأفارقة -الأميركيّين تحت، بحكم لون البشرة، يضع كلّ ما سبق المسلمين فوق، وسواهم تحت، بحكم الدين. يستند ما يمكن وصمه بالتمييز الديني - العنصري، إلى كون الشريعة مصدر التشريع؛ وهذا بالتحديد ما أعاد الإعلان الدستوري الجديد في سوريا تثبيته.
ربّ سائل: كان المسيحيّون حوالى عشرين بالمئة من السكّان عندما نشأت سوريا الحديثة، وانحدرت نسبتهم إلى عشرة بالمئة يوم بدأت الحرب الأهليّة السوريّة عام 2011، لتصير حاليّاً أقلّ من خمسة بالمئة بحسب مختلف التقديرات. ما الحاجة، والحال هذه، لتثبيت الإسلام ديناً لرئيس الدولة؟ واقعيّاً، حتّى لو لم ينصّ الدستور على ذلك، ما حظوظ أن يتولّى مسيحي رئاسة الدولة؟ الجواب أنّ لذّة إذلال "النصارى" لا تكتمل إن كانت فقط بالأمر الواقع؛ ضروري أن ينصّ عليها الدستور كي يتذكّروا مكانهم الدوني بالتراتبية المجتمعيّة كلّما قرأوه، أو كلّما فرض الإسلام نفسه عليهم بحياتهم اليوميّة، بغير رغبة منهم.
يبرّر العقل التفوّقي الأكثري ما يقترفه بحقّ الآخرين بحجّة لا يتعب من تكرارها وهو أنّه غالبيّة السكّان. لا يفهم هذا الوعي أنّ منطق غالبيّة/أقليّة يصحّ فقط عندما يكون متحرّكاً، أي عندما يقوم على أساس الصراع السياسي. مثلاً، الجمهوريّون غالبيّة سياسيّة في الولايات المتّحدة اليوم؛ تالياً، يتولّى مرشّحهم دونالد ترامب رئاسة الجمهوريّة الأميركيّة. بعد أربع سنوات، يمكن أن يخسر الجمهوريّون غالبيّتهم، فيعود ديمقراطي إلى سدّة الرئاسة. منطق غالبيّة/أقليّة متحرّك هنا لأنّه يستند إلى أهواء الرأي العام، المتغيّر دوماً، وإلى انتخابات ديمقراطيّة. في المقابل، عندنا يستند منطق غالبيّة/أقليّة إلى الهويّة، يصير ثابتاً غير متحرّك. المسيحيّون مثلاً سيبقون دوما أقليّة في مصر، والدروز في سوريا، والأكراد في العراق. وعندما يستخدم التفوقيّون الحجّة الأكثريّة بهذه المجتمعات، فهم يعبّرون عن وعي تمييزي مفضوح هو جذر المسألة الطائفيّة في منطقتنا.
والحال أنّ تبعات آفاق العقل التفوّقي الأكثري في سوريا لا تطال المسيحيّين وحسب. كان يكمن لواضعي الإعلان الدستوري الجديد أن يأخذوا لبلادهم اسم "الجمهوريّة السوريّة"، على غرار الاسم الرسمي للبنان أي "الجمهوريّة اللبنانيّة". ولكن حاشا وكلّا لقلب العروبة النابض أن يسقط بهذا النوع من الانعزاليّة، أليس كذلك؟ الاسم الرسمي لسوريا سيبقى "الجمهوريّة العربيّة السوريّة". حسناً: ماذا عن أكراد سوريا؟ أليسوا سوريّين بدورهم؟ لماذا ينبغي أن يشعر الأكراد بأيّ ولاء لبلاد لا يعترف اسمها الرسمي بوجودهم؟ السؤال بديهي، ولكنّ العقل التفوّقي الأكثري لا يشغل باله به لأنّ ما يحرّكه اليوم هو ما حرّكه دوماً، عنيت منطق الغلبة و"الفتح".
وعموما، للأكراد ميليشيا قويّة، وسيدافعون عن أنفسهم. غالب الظنّ أنّ الجولاني وصحبه لن يتمكّنوا منهم، أقلّه حتّى الساعة. كما لن يتمكّن الجولاني من قهر الدروز السوريّين المسلّحين بدورهم، والمستندين الى دعم اسرائيلي واضح. ومن نافل القول أنّ الجولاني لن يتمكّن من الجيش الاسرائيلي الذي قضم مناطق جديدة من بلاده. ماذا يبقى للتفوقيّين؟ المجازر بحقّ العلويّين، والتمييز العنصري – الديني بحقّ المسيحيّين. جحا، كما يقول المثل الشعبي عندنا، لا يتمكّن الّا من خالته.
هشام بو ناصيف -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|