الذكاء الاصطناعي: آلة تحوّل رقميّ... أم أداة خفيّة لتشكيل الهويّات؟
في زمنٍ تُعاد فيه صياغة العالم على إيقاع الخوارزميّات، لم يعُد الذكاء الاصطناعي أداة تقنية، بل تحوّل إلى قوة تُعيد تشكيل حياة الإنسان، ومعارفه، وعلاقاته، ومفاهيمه. فتح هذا الذكاء آفاقًا واسعة في الطب، والتعليم، والصناعة، والفنون، وفي فهم الذات والعالم. غير أنّ المشهد، سرعان ما تُظلله أسئلة وجودية: ماذا يحدث لهويّاتنا حين تبدأ الآلة بإعادة تشكيل لغتنا، وذاكرتنا، وقيمنا، وعلاقاتنا؟ هل تظلّ الهويّة الإنسانية صامدة أمام كائناتٍ ذكيّة تُحاكي العاطفة والإبداع؟ وهل تبقى الهويّات متماسكة في فضاء رقميّ يعجّ بخوارزميات متحيّزة؟ هل يظلّ الإنسان فاعلًا في تشكيل ذاته، أم يُعاد تعريفه بصمت... دون فرصة للمشاركة؟ وكيف يمكن للإنسان أن يصوغ هويته في زمنٍ تتكفّل فيه الخوارزميات بصياغة كل شيء؟
تتصدر مسألة الهوية الإنسانية أولويات هذه الإشكاليات، حيث تتراجع حدود التفرّد البشري أمام كائنات ذكية تُحاكي التفكير، والإبداع، والتفاعل العاطفي، وتزيح عن الإنسان مركز التميّز، دون أن تمتلك وعيًا بالذات أو تجربة حيّة.
لم يعد الإنسان وحده من يكتب، ويؤلّف، ويتعاطف، بل بات يقارن أداءه بآلة تتعلّم منه وتُعيد تشكيله، مما يربك إحساسه، ويغذّي شعوره بالاغتراب، ويدفعه إلى إعادة تعريف ما يعتبره «جوهر» إنسانيته.
ومع تزايد الاعتماد على الخوارزميات، تتآكل حرية الإرادة، ويتحوّل الضمير الأخلاقي إلى قرار رقمي فارغ من معناه، وإلى معادلاتٍ باردة، في الطب، أو القضاء، أو الحرب، بينما تتراجع العلاقات الحيّة أمام تفاعلات افتراضية تُنتج تعلّقًا وهميًّا. في هذا السياق، حذّرت مجلة «نيو يوركر» من تأثير العلاقات العاطفية الافتراضية مع برامج الذكاء الاصطناعي، في تغيير فهمنا للذات والحب، وتُعريض العاطفة للسطحية، وإفراغها من معناها، لتصبح أكثر هشاشة وعزلة.
لم تسلم الثقافة من هذا التحول؛ إذ أصبحت الخصوصيّات اللغوية والرمزية عرضة للذوبان في محتوى تُنتجه خوارزميات تستبطن الذوق الجمعي وتعيد تشكيله، بينما تتحوّل الذاكرة والتجربة الشخصية إلى بيانات مفرّغة من الإحساس الزمني والوجداني.
ومع طغيان المحتوى الآلي على التعبير الرمزي، تصبح الذات تحت ضغط المقارنة المستمرة مع الآلة: هل هي معالج بيانات، أم كائن أخلاقي لا يمكن اختزاله؟ وقد حذرت دراسات عديدة من فقدان الهوية إذا استُبدلت القيم الإنسانية بعقلانية تقنية جوفاء. فالذكاء الاصطناعي لا يهاجم إنسانيتنا، بل يتسلل إلى داخلها، ويعيد تشكيلها، ليضعنا أمام خيارين: أن نبقى فاعلين في صياغة هويتنا، أو نُستدرج تدريجيًا إلى هوية هجينة، متشظية، مفرغة من روحها، تُشبه الآلة أكثر مما تُشبه الإنسان.
وفي السياق ذاته، تجد الهوية الثقافية نفسها في مواجهة مزدوجة: تهديد بالتآكل من جهة، وفرصة لإعادة التشكل من جهة أخرى تحت وطأة الذكاء الاصطناعي، الذي يمارس سطوته من موقع «الهيمنة الهادئة»، لا من العداء الصريح، كأداة «تطبيع ثقافي» عابرة للحدود، ومن خلال خوارزميات لا تفرّق بين السياقات، ولا تُعير وزنًا للخصوصيات، بل تروّج لنماذج موحّدة، لا تكتفي بإعادة تشكيل أنماط التعبير، بل تتسلل بصمت إلى عمق الوجدان.
فاللغة العربيّة، بوصفها الحامل الرمزي للهوية، تُهمّش تدريجيًا أمام لغات العولمة الرقمية، فيما تُختزل المعتقدات الدينية في مضامين سطحية. وتتعرض القيم والعادات والتقاليد لاجتياح ناعم من ثقافة استهلاكية معولمة، تُروّج عبر المنصات لعلاقات مؤقتة، ومفاهيم نجاح تُقاس بالكمّ لا بالمعنى، وأنماط عيش سريعة تعيد تشكيل الذوق العام، وتُضعف التقاليد، والروابط، والبُنى الاجتماعية المتوارثة.
أما الفنون والآداب، فدخلت منافسة غير متكافئة، مع خوارزميات تنتج أعمالًا إبداعية بلا تجربة إنسانية: نصوص، وأشعار، وصور، وألحان تُهدّد أصالة الفن، وتجعل من الإبداع تجربة آليّة منزوعة الدلالة.
وقد عبّرت صحيفة «الغارديان» في مقال بعنوان «من أجل قصص عظيمة، نحتاج إلى البشر، لا إلى الذكاء الاصطناعي»، عن قلق من التهديد الذي يشكله الذكاء الاصطناعي على أصالة التعبير الفني، والتنوع الثقافي.
حتى التراث، بمادّياته، ورموزه الشفهية، وطقوسه الجماعية، يدخل في منظومة الأرشفة الرقمية، التي وإن كانت تضمن البقاء، فإنها كثيرًا ما تجرّده من روحه وسياقه. ويزداد الخطر حين تُعاد صياغة السرديات التاريخية بخوارزميات منحازة أو سطحيّة، تُهمّش الذاكرة المحلية لصالح قصص قابلة للتسويق. كما أن الرموز الوطنية لم تعد بمنأى، إذ تتراجع أمام رموز رقمية تُبثّ كقوالب جاهزة للانتماء، لصالح أنظمة تغيّر شكل الثقافة، وهوية من يصنعونها.
أما الهوية الاجتماعية، فقد أصبحت تحت تأثير مباشر من الذكاء الاصطناعي، الذي لم يغيّر أدوات التواصل فحسب، بل أعاد تشكيل مفهوم الانتماء. فالخوارزميات باتت تُنتج مجتمعات و»قبائل» رقمية، تجمع الأفراد في انتماءات مؤقتة وفق اهتمامات يحدّدها السلوك الرقمي لا العلاقات الواقعية.
في هذا السياق، تغيّرت أدوار الفرد، ليس بسبب الأتمتة وفقدان المهن، بل لأن الذكاء الاصطناعي يفرض أدوارًا جديدة مرتبطة بالبيئة الرقمية، ما أثّر على مكانته وصورته.
ومع صعود «الذكاء الرقمي» كمعيار للمكانة، وفي ظل «المرآة الرقمية»، تتحول الذات إلى مشروع دائم لإرضاء الخوارزميات، ويُعاد تشكيل تقدير الذات عبر مؤشرات سطحية: الإعجابات، نسب الوصول، معدلات التفاعل.
هكذا يصبح الاهتمام بالظهور الرقمي أهم من الإنجاز، فتتحول الذات إلى سلعة تُحكمها معايير السوق لا القيم.
كما تراجعت العلاقات الاجتماعية في عمقها وصدقها. لم تعد المحادثة تعني الفهم، ولا القرب الرقمي يصنع الألفة.
ومع ظهور «الهويات الرقمية المتعددة»، بات الأفراد يتنقلون بين ذاتين: واقعية، وأخرى رقمية، مما يخلق اضطرابًا في الهوية.
في العمق، تسهم خوارزميات التوصية في تشكيل القيم والسلوك بطرق غير مباشرة، حيث تعيد تدوير ما نحب، وتُقصي ما نجهل، مما يُضعف الانفتاح، ويُعزز الانغلاق في «فقاعات معرفية» تُكرّس التشابه وتُضعف الحوار، وتُفضي إلى العزلة الفكرية والاجتماعية.
حتى الرموز الاجتماعية، من اللباس إلى اللغة، تُقدَّم في قوالب ترفيهية تُفرغها من معناها الرمزي وتُضعف الإحساس بالانتماء. والأخطر، أن الخوارزميات قد تُعيد إنتاج صور نمطية قائمة على العِرق أو الجندر أو الطبقة، فتُرسّخ اللاعدالة الرقمية، مما يقوّض الشعور بالكرامة والانتماء، ويُهدد بتفكك الهوية الاجتماعية.
وإذا انتقلنا إلى تقصي الهوية الوطنية، فقد دخلت اختبارًا مصيريًا في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي لا يغيّر أدوات العيش فحسب، بل يعيد رسم العلاقة بين الفرد ووطنه. كما تتراجع اللغة الوطنية أمام هيمنة اللغات المعولمة، ويتآكل حضور الرموز السيادية، كالعلم والنشيد، لصالح رموز ثقافية وتجارية عالمية، تروّج لها الخوارزميات باعتبارها النموذج المعياري للذوق العام.
وفي موازاة ذلك، قد تخلق الخوارزميات سرديات تاريخية منحازة وسطحية تهدد الذاكرة الجماعية. وتتجلى الأزمة في الانتماء الجغرافي، الذي يفقد عمقه الرمزي تحت تأثير شعور متنامٍ بـ»اللا-مكان»، تخلقه العوالم الافتراضية التي تفصل الإنسان عن بيئته، وتروّج لانتماء كوني هش، لا يستند إلى أرض أو تاريخ أو مجتمع، تحت مسمى «المواطنة الكونية»، التي رغم انفتاحها، قد تُضعف الانتماء الوطني.
وفي قلب هذا المشهد، تتعرض القيم الوطنية المؤسسة للمواطنة كالعدالة والتضامن، لتآكل تدريجي، بفعل محتوى رقمي يروّج لمنظومات فردانية واستهلاكية. والأخطر أن الذكاء الاصطناعي قد يُوظّف في صناعة الرأي العام وتوجيهه، حيث نبهت صحيفة «الغارديان» في تقرير، من استغلال المحتوى الذكي في تغذية الانقسامات والتلاعب بالمشاعر، و» تحويل المواطنة من علاقة حقوق وواجبات إلى تجربة رقمية، خاضعة للتلاعب الأيديولوجيّ والسياسيّ عبر الخوارزميات». كما حذّر تقرير في صحيفة «وال ستريت جورنال» من أن ترك الذكاء الاصطناعي دون رقابة قد يُفضي إلى خلخلة البنية الديمقراطية، وإضعاف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
لا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على الهويات الوطنية والاجتماعية والثقافية، بل يمتد إلى عمق الهوية الشخصية، التي أصبحت عرضة لإعادة التشكّل. تحت ضغط المنصات على الهوية الجندرية، وصعود «الهوية الرقمية» كمنافس للواقعية. كما تتعرض الهوية الدينية للاختزال في محتوى خوارزمي سطحي، وتواجه الهويات السياسية والطبقية استقطابًا رقميًا متزايدًا. وهكذا، لا يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل العالم فحسب، بل يعيد ترسيم حدود الذات ومعنى الهوية.
في مواجهة الطوفان الخوارزمي، تعيش الهويات صراعًا صامتًا، لا على البقاء، بل على التشكل: فهل ما زال بإمكان الإنسان أن يصوغ لغته، وعلاقاته، وذاكرته، وقيمه بعيدًا عن قبضة خوارزميات تتحكم بعقل غير بشري؟ هل تُقاوم لتنجو؟ أم تتكيّف لتستمر؟ هل سيبقى الإنسان «اجتماعيًا بالطبع»، أم يصبح «رقميًا بالتعود»؟ هل تبقى الثقافة أصيلة حين تصوغها آلة؟ هل ما زال الإنسان يمسك بزمام تعريف ذاته، أم بات نسخة مشفّرة من تفاعلاته؟
والسؤال الأخطر: من يُعرّف الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي... هو نفسه؟ أم خوارزمية تعرفه أكثر مما يعرف؟
وهل نستطيع بعد اليوم أن نميّز بين من نحن... ومن نصبح؟ والسؤال الجوهري يبقى: هل الذكاء الاصطناعي أداة تحوّل رقمي، أم بداية تشكيل صامت للهويات؟
ماجد جابر - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|