جوزيف عون: ارحل
البيان الذي صدر عن وزارة الدفاع اللبنانيّة بعد حادثة الروشة مفصليّ باللحظة السياسيّة الراهنة، وبتاريخ العلاقات المدنيّة - العسكريّة بلبنان. قرّر البيان أنّ مهمّة الجيش "درء الفتنة ومنع انزلاق الوضع إلى مهاوي التصادم وردع المتطاولين على السلم الأهلي وترسيخ دعائم الوحدة الوطنيّة". وإذ أسف لـ "نكران الجميل" و "التحامل" و "إلقاء تبعات الشارع على حماة الشرعيّة"، أكّد البيان أنّ للجيش "رئيسًا يرعاه وقائدًا يسهر عليه وشعبًا يحبّه ويرى فيه الأمل الباقي بعد اللّه ولبنان".
من الصعب حشو كميّة كبرى من الهراء بعدد أقلّ من الكلمات. لا، "الشعب" لا يرى في الجيش مصدر الأمل بعد اللّه ولبنان، بل يرى فيه المؤسّسة التي وقّع قائدها على اتّفاق العار بالقاهرة عام 1969 على أمل أن يصل إلى رئاسة الجمهوريّة، أو أن يعود إليها قائدًا سابقًا للجيش (ما كان شبع سلطة آنذاك). ثمّ إنّ الجيش انخرط بحرب الإلغاء بالمنطقة الشرقيّة؛ وتكيّفت قيادته دون صعوبة مع الاحتلال السوري لاحقًا يوم قست مخابراته بالتسعينات على الطلّاب السياديّين الذين رفضوا القبول بالاحتلال؛ كما تكيّف الجيش بعد ذلك وحتّى اليوم مع سيطرة الميليشيا الشيعيّة على البلاد، ودائمًا بدون صعوبة أو احتكاك معها. خيلاء العسكريتاريا التي تزيّن لنفسها أنّ اللبنانيّين يضعون الجيش "بعد اللّه ولبنان" خفّة فكريّة جديرة تمامًا بعسكر دول العالم الثالث.
ومع ذلك، المسألة ليست هنا. المسألة أنّ بيان وزارة الدفاع انقلابي على الشرعيّة والدستور. والحال أنّ الانقلابات لا تعني دومًا أرتالًا من الدبّابات تتوجّه لاحتلال قصر جمهوري. هناك انقلابات مخمليّة (Velvet Coups) تحصل دون ضربة كفّ واحدة عندما تقرّر العسكريتاريا التخفّف من أحكام الدستور. استطرادًا: الانقلابات لا تعني بالضرورة أن يقبض معارض من خارج النظام على الحكم فيه. هناك ما يسمّى بـ "الانقلاب الذاتي" (Autogolpe) وجوهره أن تقوم جهة من داخل الحكم، وصلت إليه بطريقة شرعيّة، باستعمال مفاصله لتفكيك الشرعيّة. بالعمق، هذا ما فعلته وزارة الدفاع اللبنانيّة ببيانها الأخير.
لماذا؟ أوّلًا، لأنّها حدّدت للجيش مهمّة سياسيّة هي حماية "الوحدة الوطنيّة"، وهذا من شيم العسكر الانقلابي بدول العالم الثالث. مثلًا، العسكر التركي أوكل لنفسه بما مضى مهمّة حماية العلمنة. جيوش أميركا اللاتينيّة كانت تعطي لنفسها مهمّة ضرب اليسار، ولو صوّت المواطنون له. بالمقابل، بالدول الديمقراطيّة، لا مهمّة سياسيّة للجيش؛ وظيفته حصرًا تطبيق أوامر السلطة التنفيذيّة. نقطة على السطر. من لا تعجبه الأوامر من العسكر يحقّ له أن يستقيل، ولكن لا رأي للعسكر كعسكر بسياسة بلادهم. واضح من بيان وزارة الدفاع اللبنانيّة أنّها تمنح نفسها حقّ التفكير بأيّ أوامر تحبّ تطبيقها، وأيّ ترفضها باعتبارها تتعارض مع حماية "الوحدة الوطنيّة"، أي مع المهمّة السياسيّة التي حدّدتها لنفسها من خارج الدستور. هذا انقلاب مخمليّ.
ثانيًا، واضح من بيان وزارة الدفاع أنّها ترى أنّ تعليمات الجيش تأتي من رئاسة الجمهوريّة، ومن قيادته. كان لافتًا جدًّا غياب الإشارة إلى مجلس الوزراء بالبيان، دع عنك أنّه مصدر السلطة التنفيذيّة بحسب دستور اتّفاق الطائف. بوضوح شديد: مجلس الوزراء، عبر رئيسه، أعطى تعليمات هي من صميم صلاحيّاته الدستوريّة، فقرّر قادة القوى الأمنيّة الذين وصلوا لمواقعهم بحسب الأصول الدستوريّة أنّ الدستور لا يعنيهم، ولا، تاليًا، تعليمات رئيس مجلس الوزراء. هذا انقلاب ذاتيّ.
جوزيف عون مسؤول مباشرة عن كلّ ما سبق لأنّه اختار وزير الدفاع، وقائد الجيش، شخصيًّا. الانتقادات التي طالت هذا وذاك بالأيّام الأخيرة بعد أحداث الروشة محقّة، شرط ألّا ينسى أحد أنّ وزير الدفاع وقائد الجيش حليفا جوزيف عون. هو مسؤول تاليًا عن حركتهما السياسيّة. أن يكونا تورّطا مع نبيه برّي، والميليشيا الشيعيّة، ضدّ رئيس مجلس الوزراء، وضدّ أمل اللبنانيّين بألّا تظلّ دولتهم فاشلة، ومستسلمة لميليشيا أصوليّة، يعني بالسياسة أنّ جوزيف عون نفسه قد تورّط.
سرديّة وزارة الدفاع أنّها تفعل ما تفعله لدرء الفتنة مردودة لجوزيف عون، ولميشال منسّى، ولرودولف هيكل. حسن نصراللّه متّهم في الوعي الشعبي بقتل رفيق الحريري، زعيم سنّة بيروت؛ وها "حزب" نصراللّه يحيي ذكراه ببيروت، وبمكان غير بعيد من موقع اغتيال الحريري. أيّ استفزاز للسنّة أكبر من هذا؟ بل أيّ استفزاز لكلّ لبناني غير متواطئ مع الميليشيا الشيعيّة؟ انسحاب الجيش من المشهد ليس حماية للبلاد من الفتنة بل تعبيدًا لطريقها.
والحال أنّ حصاد اللبنانيّين مع جوزيف عون بات مرًّا. إميل لحّود فعل ما فعله يوم كان رئيسًا، ولكنّه لم يهدر فرصة دوليّة معطاة للبنان لأنّها لم تكن موجودة. جوزيف عون بالمقابل يهدر فرصة اهتمام دولي بلبنان قد لا تتكرّر لعقود. وإن كان جوزيف عون يظنّ أنّ اللبنانيّين لم ينتبهوا أنّ دونالد ترامب التقى أحمد الشرع بنيويورك، ولم يلتقه هو، فهو مخطئ. عجز جوزيف عون عن تجريد ميليشيا الشيعة من سلاحها يحجز لاسمه مكانًا على لائحة عليها أيضًا أسماء الموقّعين على اتّفاقيّة القاهرة، والاتّفاق الثلاثي، فضلًا طبعًا عن أسماء من لم يوقّعوا على اتّفاقيّة 17 أيّار. ومن لم يتصرّف كما كان يليق به أن يتصرّف بسنته الرئاسيّة الأولى، بعزّ الزخم، والأمل به، والدعم الدولي، فلن يتصّرف بشكل أفضل بسنوات العهد الباقية. ليته يرحل.
وإن لم يفعل، ينبغِ لكلّ رافض لسيطرة السلاح الشيعي على لبنان أن يعي أنّ المواجهة مع السلاح تعني بالضرورة المواجهة السياسيّة مع حماته. وقد صار واضحًا أنّ جوزيف عون منهم.
هشام بو ناصيف-نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|