الصحافة

قآني يكشف ما وراء "حرب الإسناد"

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

عندما فتح "حزب الله" جبهة الجنوب في 8 أكتوبر 2023، قدّم حسن نصر الله ذلك على أنه تعبير عن التضامن مع غزة و"واجب أخلاقي" تجاه لبنان. غير أن ما بدا للوهلة الأولى تحرّكًا محدودًا، تحوّل سريعًا إلى واحدة من أكثر الحروب تدميرًا في تاريخه الحديث.

بعد مرور عامين، كشفت تصريحات إسماعيل قآني، قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، جانبًا من الحسابات التي قادت إلى هذه الكارثة، والتي حاول أن يمنحها معنى آخر. فقد كشف قآني أن نصر الله، رغم أنه "لم يُبلَّغ بتاريخ" هجوم حماس أو ما عُرف بـ"طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، هو الذي "وضع بعناية المراحل اللازمة لمواجهة إسرائيل".

كانت الصياغة مدروسة بعناية: فهي ترفع نصر الله إلى مرتبة الشريك في التخطيط الاستراتيجي، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على هامش الإنكار المعقول لطهران. ومع ذلك، فإن محاولة قآني لتكريم شريكه الراحل كشفت، من حيث لا يدري، حقيقة أعمق: أن "حرب الإسناد" التي خاضها "حزب الله" لم تكن ردًّا تلقائيًا، بل حربًا مصطنعة صُمّمت ببرودة، وانتهت بنتائج كارثية.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا التصميم يندرج ضمن ما تصفه عقيدة الحرس الثوري الإيراني بـ"مراحل المواجهة" مع إسرائيل، حيث تُفتح في كل مرحلة جبهة جديدة أو يُزاد الضغط، بما يُجبر إسرائيل على القتال على أكثر من محور، من دون أن تتحمّل طهران المسؤولية المباشرة.

وقد نوقش هذا المفهوم، المعروف داخل أروقة الحرس بـ"التدرّج في المقاومة"، بشكلٍ موسّع خلال اجتماعات التنسيق المشتركة التي عُقدت في ذلك العام في ضاحية بيروت الجنوبية.

بالتالي، عندما شنّت "حماس" هجومها في 7 أكتوبر، كان الفصل الثاني من الخطة جاهزًا للبدء: أي أن يتحوّل "حزب الله" إلى العمود الفقري للمحور، وأن تصبح الساحة اللبنانية رادعًا ومسرحًا للأحداث في آنٍ واحد.

لذلك، لا يمكن اعتبار قرار حسن نصر الله في 8 أكتوبر بالدخول في الحرب قرارًا عفويًا، خصوصًا بعدما كرّر في خطاباتٍ منذ مطلع عام 2023 أن "المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي عندما تناديها فلسطين". وسواء كان نصر الله على علمٍ بالتوقيت الدقيق لهجوم "حماس" أم لا، فإن ما سُمِّي بـ"حرب الإسناد" اتّبع سيناريو كُتب بعناية في طهران: تصعيد متدرّج، إنهاك للقوات الإسرائيلية، ثم جني المكاسب من خلال مواجهة محسوبة ومدروسة.

لكن ما تلا ذلك كان انهيارًا منهجيًا. فقد توقّع "حزب الله" أن تكتفي إسرائيل بمناوشات حدودية، وقصفٍ مدروس، ومسرحيةٍ من "ضبط النفس" الدبلوماسي. إلا أن إسرائيل تعاملت مع 8 أكتوبر كجبهةٍ وجودية ثانية، وأطلقت العنان لقوةٍ ساحقة.

وفي غضون أسابيع، أصاب الهجوم الدقيق هيكل قيادة "الحزب" بالشلل، وقطع الممرات اللوجستية إلى سوريا، وهجّر مئات الآلاف من المدنيين من جنوب لبنان.

وبعد أن كان الهدف من "حرب الإسناد" تخفيف الضغط عن غزة، تحوّلت إلى السبب الذي ساعد إسرائيل في القضاء على "حزب الله". بذلك، تبدّل ميزان الردع في "محور المقاومة"، وربما لحقبةٍ كاملة، فيما تُركت آلة الدعاية الإيرانية تكافح لتسويق الدمار على أنه "إنجاز".

ومن جهةٍ أخرى، لم يتمكّن النسيج الاجتماعي اللبناني من تحمّل "تصميم" عقيدة الحرس الثوري الإيراني، إذ كانت كل "مرحلة" من المواجهة التي فرضتها طهران تقوّض طبقةً جديدة من سيادة لبنان وقدرته على الصمود.

وبحلول منتصف عام 2025، بدت الحصيلة قاسية: أكثر من عقدٍ من التعزيزات العسكرية تبخّر؛ ومناطق واسعة جنوب الليطاني أصبحت غير صالحةٍ للسكن؛ وتبدّدت الهالة التي أحاطت بمناعة "حزب الله"، تلك التي شكّلت جوهر قوّته الرادعة.

وهكذا، تحوّلت "المراحل" التي يحتفل بها إسماعيل قآني اليوم إلى مراحل استنزافٍ لـ "حزب الله" نفسه.

من هنا، برزت حاجة طهران إلى إعادة كتابة التاريخ. لأنه بالنسبة للأنظمة التي لا تستطيع الانتصار في ساحة المعركة، تصبح السيطرة على الذاكرة الجماعية بديلًا عن السيطرة على الأرض. وفي مواجهة الدمار الذي حلّ بلبنان، اتّبعت طهران ما دأبت عليه الأنظمة الاستبدادية بعد الهزيمة: تحويلها إلى انتصار.

لذلك، لم يكن تكريم إسماعيل قآني لأمين عام "حزب الله" في أكتوبر 2025 زلّة لسان، بل جزءًا من تبديل منسّق في السرد. وإشادته بـ"التحضير الدقيق" لنصر الله هي محاولة للاستيلاء على تلك الذاكرة قبل أن يُعرّفها الآخرون، وغرس أسطورة جديدة: أن تدمير لبنان كان اختبارًا مُختارًا للإيمان، وليس انهيارًا لاستراتيجية مُفرطة التوسّع.

وقد قامت وسائل الإعلام الإيرانية الحكومية (IRIB وTasnim وFars) بتنسيق تغطيتها حول هذه الصياغة: نصر الله توقّع المواجهة واستعدّ لها ونفّذها. والغرض من ذلك كان مزدوجًا: أولاً، يُعيد هذا النهج ترتيب الأدوار داخل "محور المقاومة"، مؤكّدًا أن حرب "حزب الله"، مهما كانت كارثية، كانت لا تزال جزءًا من المخطط الإيراني.

ثانيًا، يُعيد صياغة الهزيمة على أنها تضحية مُتعمّدة ودليل على العمق الاستراتيجي، لا على سوء التقدير.

لكن المفارقة قاتلة: إذ كلما زاد تمجيد إيران لتخطيط نصر الله، زاد اعترافها بأن دمار لبنان لم يكن حادثًا مأسويًا ناجمًا عن التضامن، بل نتيجة متوقعة لاستراتيجية فاشلة. وفي لبنان، يُلقي هذا الاعتراف بثقله على جُرحٍ مفتوح وعميق.

وبعد مرور عامين، تُعيد أشرطة الفيديو الدعائية لـ "حزب الله" عرض المشاهد الأولى من الحرب وكأنها لحظات انتصار. وتصدر طهران تأبينات مزخرفة لشراكة صيغت بالدم. لكن الواقع المرئي، من صور إلى النبطية، يروي قصة مختلفة: مدن خالية، أُسَر ممزقة، وبلد مُنهك بحرب لم يخترها أبدًا.

إذا صدّقنا كلام إسماعيل قآني: كارثة 8 أكتوبر لم تكن بسبب ردّة فعل عاطفية، بل خلاصة فشل حركةٍ توهّمت أن الطاعة استراتيجية بحدّ ذاتها، فَضَحّت بأمتها من أجل الحفاظ على أوهام إيران.

وبينما تحاول طهران إعادة كتابة قصة مواجهتها "المدبّرة بعناية"، تبقى أطلال الجنوب النصب التذكاري الصادق الوحيد: تحذير محفور على الحجر، يُظهر أن كل نص مكتوب بلغة "الممانعة" يُفضي في النهاية إلى العدم.

جوسلين البستاني-نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا