فرنسا التي تلبننت
فرنسا بحاجة الى قامة بونابرتية، أو الى قامة ديغولية، للخروج من أزمتها التي هي أزمة دولة لا أزمة الجمهورية الخامسة التي خبا دويها ليدخل الرؤساء الى الاليزيه على دبيب الأرانب لا على صهيل الخيول، كما قالت صحيفة "لوكانار أنشينه" الساخرة. هذه أيضاً أزمة أوروبا. أين ونستون تشرشل وكونراد اديناور وبرونو كرايسكي...؟
واذا كان جان دانيال قد رأى أن الايدولوجيات في القرن العشرين قد تحولت الى أديان، وأن الأديان في القرن الحادي والعشرين قد تحولت الى ايديولوجيات، وهذا ما جعل العرب في تلك الحالة من التقهقر بسبب القراءة القبلية للنص الديني أو للفعل التاريخي، والذي أدى الى ولادة تلك الظواهر المرضية داخل الاسلام، يرى الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي أن التاريخ يسحق القارة العجوز، قبل أن يستدرك "لكنها أميركا... لكنها أميركا".
غريب أن يستخدم جان ـ جاك سرفان ـ شرايبر، الصحافي والسياسي الفرنسي، مصطلح "الجدلية الفرويدية" لدى تقديم كتابه "التحدي الأميركي" (1967)، داعياً في مقاربته العلاقات بين ضفتي الأطلسي، للتبعية الأوروبية لأميركا بعدما تبيّن له أن من أصل 500 شركة كبرى في القارة هناك 340 شركة أميركية.
دونالد ترامب لا يرى في أوروبا سوى "تلك العربة الهرمة في القطار الأميركي". أين العرب في هذه الحال؟ المستشرق جيل كيبل أخذ على العرب أنهم يحاولون الدخول الى القرن، وفي هذا الزمن المجنون، "سيراً على الأقدام"، مبدياً خشيته من انهيار الحضارة الاسلامية، بعدما كان أونفري قد تحدث عن انهيار الحضارة اليهومسيحية لتحل محلها الحضارة الكونفوشية والحضارة الهندوسية.
في الخارطة الأوروبية، فرنسا الآن هي النقطة الساخنة. ولطالما قلنا أن لبنان بحاجة الى شخصية ديغولية (وكان فؤاد شهاب كذلك) للانتقال من الجمهورية الثانية الى الجمهورية الثالثة، لكننا قرأنا لنائب فرنسي، ولدى ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة للجمعية الوطنية، توجسه من "لبننة فرنسا". تلك النتائج التي جعلت من البرلمان مجمعاً سريالياً لشظايا سياسية وايديولوجية. نواب من اقصى اليسار التروتسكي ومن أقصى اليمين الفاشي، دون أن يستطيع الرئيس ايمانويل ماكرون الاضطلاع بدور الماسيترو الحاذق. آخر قضاياه اثبات أن زوجته بريجيت ولدت أنثى لا ذكرا...
كنت اقرأ صحيفة "لوباريزيان" في 31 آب 2016، وكان هناك تحقيق عن السبب وراء استقالة وزير الاقتصاد ايمانويل ماكرون، مركزاً على علاقة العمل التي ربطته لسنوات مع مؤسسة روتشيلد. آنذاك، أي قبل 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية في نيسان 2017، كتبت في "الديار" "ماكرون رجل الاليزيه المقبل". والواقع انني كنت أراهن على أن يكون رئيساً استثنائياً، بعد عدد من الرؤساء، بالشخصيات الرتيبة والمملة، لأفاجأ، خصوصاً في الولاية الثانية أنه كان يتخذ مواقف متناقضة كما المصاب بالبانورايا، دون اغفال مواقفه الرائعة حيال القضية اللبنانية والقضية الفلسطينية.
كان واضحاً وجود لمسة ديغولية في شخصية الرجل "أن تكون رئيساً حقيقياً لفرنسا يعني أن يكرهك الرئيس الأميركي". فرنكلين روزفلت حال دون الجنرال الذي كان يرصع قبعته بصليب اللورين، وحضور مؤتمر يالطا مع جوزف ستالين، ودعا ونستون تشرشل لحضوره، كما كان يريد اقامة "جمهورية لافونيا" باقتطاع جزء من فرنسا ومن بلجيكا.
كثيرون في فرنسا يرفضون الوصاية الأميركية على القارة. وزير الخارجية السابق أوبير فيدرين كتب "لا يليق بفرنسا أن تكون القهرمانة حتى في حضرة الآلهة". الى حد كبير كان ماكرون يريد "استرداد" دور لأوروبا في السياسات الدولية. هذه رغبة عبثية لأن الحرب العالمية الثانية وضعت حداً نهائياً للأمبراطوريات الأوروبية (البريطانية والفرنسية)، لتكرس الولايات المتحدة نفسها قاطرة المعسكر الغربي.
ماكرون قال لـ"الايكونوميست" البريطانية "ان حلف الأطلسي أصيب بالسكتة القلبية"، ثم دعا الى انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الحلف الذي تحول الى اداة لتنفيذ الاستراتيجية الأميركية، دون أي اعتبار لمصالح الدول الأعضاء. لكنه ما لبث أن تقمص دور الظل للولايات المتحدة، لدى الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي رأى فيه الفرصة التاريخية لاظهار النزعة الدونكيشوتية في شخصيته لا النزعة البونابرتية.
ماكرون الذي انتهج سياسة الاثارة من خلال الترويج لمحاولة روسيا احتلال دول أخرى بعد أوكرانيا كان يعلم أنها غرقت بين النيران، وبين الوحول، هناك، كما أنها لم تفكر يوما بالاقتراب من الغرب الأوروبي، نابليون بونابرت الفرنسي، وأدولف هتلر الألماني هما اللذان حاولا احتلالها.
في حين كانت أميركا تزدهر، وكان ترامب يتطلع الى "المعادن النادرة" في أوكرانيا، كان الاقتصاد الأوروبي يتهاوى، وهو أحد العوامل الأساسية في الأزمة السياسية الراهنة في فرنسا.
يوم أمس كان عنوان "اللوموند"Une crise majeure s,ouvre، أي "بداية أزمة كبرى"، لدى استقالة رئيس الحكومة سيبستيان لوكورنو بعد 14 ساعة من تشكيل حكومته. أبعد بكثير من أن تكون أزمة حكومة، أو أزمة دولة. انها أزمة قارة. جان ـ لوك ميلانشون قال" هذا حين يكون قادة القارة قارعي الطبول عند باب البيت الأبيض"!!
نبيه البرجي - الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|