الصحافة

نهاية الإسلام السياسي

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تُفرز الحروب والصراعات تحوّلات سياسية واستراتيجية عميقة الأثر تحتاج إلى وقت للنضوج والاكتمال. فإذا كانت الحرب العالمية الأولى أدّت إلى ما ننوح عليه في المشرق من اتفاقية "سايكس – بيكو" وولادة الكيانات الوطنية، فيما أدّت الحرب الثانية إلى هيمنة أميركا والاتحاد السوفياتي على مسرح السياسة الدولية، مقابل انكفاء بريطانيا وفرنسا، فإن الصراعات الكبرى مع إسرائيل أحدثت تحوّلات استراتيجية غيّرت وجه المنطقة ودولها، ومنحت مشاريع ناشئة "قبلة الحياة"، فصاغت سرديّة متماسكة وطّدت لها الطريق كي تصبح قوّة حاكمة سياسيًا وفكريًا.

الحرب الأولى التي اندلعت غداة النكبة عام 1948 أفضت إلى زوال الملكية والنظم المرتكزة على عوائل سياسية وبرجوازية تقليدية في الجمهوريات الناشئة، لحساب العسكريتاريا والأحزاب القومية، فسطع نجم "الناصرية" كعنوان لتلك الحقبة. هزيمة عام 1967 ومرارتها في العقل الجمعي فجّرتا مراجعات فكرية راديكالية لاستنباط الأمل من الموروث الديني، أخرجت شعارات مثل "الإسلام هو الحل" و "الحكومة الإسلامية" من المساجد والفضاءات الاجتماعية لإنتاج ديناميات ارتكز عليها صعود الإسلام السياسيّ كقوّة فكرية.

بيد أن نتائج حرب أكتوبر 1973، على اختلاف تقويماتها من الناحية السورية بالذات، أتاحت ترميم مُصاب القومية التي دخلت في اشتباك مع التيارات الإسلامية الصاعدة أخّر وصولها إلى الحكم، دونما نجاح في الحدّ من صعود تأثيرها، فولِدت الثورة الإسلامية في إيران، والجهاديات السنية كردّة فعل ذات طابع ثأريّ. في ظلّ هذا المناخ، أفسح الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 المجال أمام ظهور "حزب اللّه"، ومن بعده "حماس" كنظير سني له يتبنى الخطاب نفسه والأدوات نفسها.

ما بين 2005 – 2007، من انسحاب شارون من غزة مرورًا بحرب تموز في لبنان، إلى الحرب مع "حماس"، تحوّل الإسلام السياسي بنسخته الملالية، حتى في طبعته السنية، إلى قوّة حكم تتوارى في ظلال دول هشة ضمن ثنائيات "الدولة – التنظيمات الموازية"، والتي تلاقت مع تأثير رياح الدخول الأميركي في العراق، الذي أدخل الجهاديات السنية في طور تكفيريّ قاتل.

وبينما يطلق الدارسون على الأحداث التي حصلت في بعض الدول عام 2011 مصطلح "الربيع العربي"، فإنه كان في المفهوم الإيراني "صحوة إسلامية تنويرية" عمِلت إيران على توظيفه لإكمال حلقات مشروعها التوسّعي بدثار إسلامي أمميّ، أنتج في نهاية المطاف مفهوم "وحدة الساحات"، والذي كان يعمل عبر التأثير المفترض لـ "طوفان الأقصى" لضمّ الأردن إليه بعد اليمن، وتشديد القبضة على العراق ولبنان وسوريا.

يقول وزير الخارجية الإيراني الراحل، حسين أمير عبد اللهيان في كتابه "صبح الشام"، الذي يعدّ أوّل رواية تأريخية لما حصل في سوريا تعكس وجهة نظر الملالي، وكتبه حسبما كشف بناء على طلب مباشر ممّن وصفه بـ "القائد الأممي" قاسم سليماني، إن إيران وحلفاءها كانوا يواجهون "مؤامرة الهندسة العكسية للمثلث المتشكل من أميركا والسعودية وإسرائيل بهدف إسقاط محور الممانعة"، أي أن السعودية كانت قلب أهداف "وحدة الساحات". لكن نتائج "طوفان الأقصى" كانت وبالًا على المحور صدّع أركانه.

مع توقف الحرب في غزة، يمسي الإسلام السياسي بنسختيه الملالية والإخوانية أمام لحظة الحقيقة. فبعدما انتزع التيار الدولتي المحافظ، بنماذجه الحداثية، وبشقيه العروبي والإسلامي، القضية الفلسطينية من الملالي، فإن المشروع المطروح اليوم هو تذويب "حماس" و "حزب اللّه" ضمن هياكل الدولة، في موازاة تذويب الجهاديات السنية ضمن دولاب الدولة السورية على يد أحمد الشرع، لإنهاء الازدواجية مع القوى الموازية التي طحنت عظام الدول وأنهكت المجتمعات.

ومع ذلك، واهم من يظن أن الإسلام السياسي الراديكالي يمكن أن يسلّم بنهايته، ولا سيّما مع امتلاكه سلاحًا فعالًا يعمل على توظيفه راهنًا لترميم سرديته، يتمثل بتأثير الخطاب الديني في القاعدة المحافظة، والتي تشكل الشريحة الكبرى في المنطقة، وقدرته على تطعيم هذا الخطاب بتأويلات يبرع في سبكها مع المناخات التقليدية المعارضة لـ "الإمبريالية الغربية"، لإعادة إنتاج مشروعيته، سواء فاوض أم تنازل أم قاتل.

في لحظة تدخل فيها المنطقة عصر ما بعد الإسلام السياسي الراديكالي، يبدو مشروع الدولة في لبنان وهو يحاول النهوض من ركامه مفتقدًا إلى القدرة على التنظير والإقناع على وقع ترسّبات الماضي. ويطرح غياب السنة عن الإسهام بشكل جدّي في هذه العملية، وبقاؤهم في حالة كمون سلبي بينما يتقدّمون في المنطقة كلها، الكثير من الإشكاليات المعوّقة للاندماج.

وعليه، يغدو من الأهمية بمكان بناء سرديّة يمكنها توظيف الإسلام التقليدي المحافظ وكتلته الصلبة المؤثرة لدعم مشروع الدولة الجامعة للتناقضات والخصوصيات الهوياتية تحت سقفها ضمن أطر تنافسية لا إقصائية أو احترابية، والتخلّص من رداء المظلومية المهلهل للدخول في اشتباك فكري مع حالة تحاول نسج خلاياها من جديد، ولديها أرضيّة صلبة تمنحها القدرة على استيلاد واجهات جديدة غداة كلّ نكبة وهزيمة، وتحويلها إلى انتصار إن لم يكن عسكريًا فمعنويًا. من يقف على هامش المتغيّرات الكبرى طامحًا إلى الكسب بلا جهد يكن نصيبه مثل وضعيته.

سامر زريق -نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا