بوتين يعرض على ترامب إنهاء الحرب بأوكرانيا مقابل "هذا الطلب"
ليلة السقوط: حين انقسم آل الأسد... وخرجت دمشق من قبضتهم!
في تلك الليلة، بدت دمشق كأنها تحبس أنفاسها. كانت الوقت ليلاً، ومن القصر الجمهوري لم يعد يصدر أي ضوء، وحدها الإشارات اللاسلكية المتقطّعة التي التقطتها الأجهزة الأمنية، كانت تُومض كأنها أنفاس نظام يحتضر. نظامٌ هرِم، لا يجيب على الاتصالات المكثّفة، حتى من مستشارته بثينة شعبان، التي رُوِّج آنذاك أنه طلب منها إعداد خطاب متلفز، وهو ما لم يكن صحيحاً.
في تمام الثامنة، ومن داخل المربّع الأمني في حيّ المالكي حيث تقيم، حاولت بثينة شعبان الاتصال عبر الخط المباشر بالرئيس مراراً لتبيان الموقف، من دون أن تتمكّن من الوصول إليه، حتى عبر مساعديه. بعد ساعات، حزمت حقائبها وغادرت دمشق، المدينة التي ظلّت ناطقة باسمها طويلاً.
الانقسام في القصر
داخل الجناح الرئاسي في دمشق، لم يكن الخلاف مجرّد تباينٍ في الرأي، بل كان انقساماً وجودياً بين شقيقين يرمزان إلى وجهَي النظام. فبينما كان بشار الأسد ــ الرئيس المخلوع لاحقاً ــ يتهيّأ للانسحاب الهادئ بالتنسيق مع موسكو، كان شقيقه ماهر، القائد الفعلي للفرقة الرابعة، يرفض ما اعتبره "استسلاماً تاريخياً" ويصرّ على القتال حتى النهاية.
تفيد مصادر مقرّبة من الدائرة الأمنية في دمشق بأن بشار الأسد كان على علمٍ مسبقٍ بترتيبات تسليم العاصمة، وأن الاتصالات مع الروس سبقت "تحرير دمشق" بأسابيع. وتشير المصادر إلى أنّ الأسد وافق على جميع بنود الاتفاق الذي تضمن خروجاً آمناً له وعدد من كبار ضباطه عبر القنوات الروسية، مقابل التزام موسكو بمنع أيّ فوضى أمنية أو محاكمات عاجلة في حال انهيار النظام.
في تلك الساعات، كان العميد سهيل الحسن، قائد "قوات النمر" المقرّب من موسكو، يصدر أوامر مباشرة لوحداته بالانسحاب من مواقعها في الجنوب والجنوب الغربي دون العودة إلى القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، في خطوة وُصفت بأنها "إعادة تموضع محسوبة" خارج نطاق علم ماهر الأسد.
وتضيف المصادر أن التوتر بين الشقيقين بلغ ذروته مساء اليوم الأخير قبل سقوط العاصمة. فبينما كان بشار يتابع مع ضباط الارتباط الروس تفاصيل الخروج المرتّب، أصرّ ماهر على إعلان "النفير العام" والخروج بخطابٍ متلفز يدعو إلى المقاومة حتى الرمق الأخير. وسرعان ما تحوّل الأمر إلى مواجهة كلامية حادة بين الشقيقين.
خرج ماهر من القاعة غاضباً، غادر بشار القاعة بصمتٍ ثقيل، مدركاً أن اللعبة انتهت. كانت الطائرة الروسية التي ستقله مع أفراد عائلته وبعض مستشاريه تُجهَّز في مطار حميميم تحت إشراف مباشر من ضباط روس.
في الممرات الطويلة للقصر، ظلّ صدى صوت ماهر يتردّد وهو يطالب بتثبيت خطوط الدفاع على مشارف كفرسوسة وعدم الانسحاب من مركز المدينة. لكن الوقت كان قد فات. لم يكن هناك انقلاب كما روّجت بعض التسريبات لاحقاً، بل صفقة أُبرمت بصمتٍ بين موسكو والقصر، أنهت عقدين من الحكم بقرارٍ واحد... من الداخل.
الهروب من المطار
وفق الرواية الرسمية، غادرت ثلاث سياراتٍ رباعية الدفع المقرّ الرئاسي في دمشق ليلًا، متّجهةً نحو طريق المطار، ترافقها وحدات روسية صغيرة. وتؤكد مصادر أمنية أن شخصية روسية رفيعة المستوى وصلت إلى القصر في تلك الليلة، واصطحبت الرئيس المخلوع بشار الأسد معها في موكبٍ محدود، وسط إجراءاتٍ غير مسبوقة من السرية والتعتيم.
لكنّ السؤال الذي ظلّ بلا إجابة هو: إلى أين ذهب الرئيس؟
تتناقض الروايات حول مسار خروجه. فبينما تؤكد مصادر قريبة من الحرس الجمهوري أن الأسد غادر من مطار دمشق الدولي على متن طائرة روسية خاصة، تفيد روايةٌ ثانية ــ حصلت عليها المدن من مصدر أمني سابق ــ بأنه خرج عبر الطريق البري إلى اللاذقية، في سيارة روسية مصفّحة ترافقه قوة خاصة، ومعه أبناؤه وعدد محدود من المرافقين الشخصيين.
في مكانٍ آخر من العاصمة، كانت الفوضى تتكثّف في المربّعات الأمنية. تلقّى كبار الضباط أوامر متناقضة ومربكة: مدير إدارة المخابرات الجوية أُبلغ بأن "القيادة تنتقل إلى موقع بديل"، بينما تلقّى وزير الدفاع رسالة تؤكد أن "الرئيس لا يزال في القصر". أمّا في وزارة الداخلية، فقد اختفى الوزير بعد جولة ليلية أجراها في المدينة، من دون تفسير، تاركاً وزارته بلا قيادة واضحة.
في الوقت نفسه، جرى تجهيز طائرتين عسكريتين في مطار حميميم، نُقل على متنهما عدد من كبار الضباط وعائلاتهم نحو وجهاتٍ لم يُفصح عنها. وبحسب مصادر ميدانية، فإن موجة الهروب الجماعي بدأت بين الواحدة والثانية فجراً، في مشهدٍ وصفه أحد الضباط بأنه "تفككٌ صامت لنظامٍ كان ينهار من الداخل".
عشرات السيارات الفارهة خرجت من العاصمة محمّلة بعائلات الضباط وأمتعتهم الثمينة، في حين توجّه آخرون نحو السفارة الروسية في حيّ المزة بحثاً عن حمايةٍ أو ممرٍّ آمن. هناك، فتحت القوات الروسية بواباتها أمام كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين، وسمحت لهم بالعبور إلى قاعدة حميميم، حيث تجمّع المئات في قاعة الانتظار بانتظار طائرات النقل الروسية التي أقلّتهم إلى خارج البلاد.
بحلول الفجر، كانت دمشق قد استيقظت على فراغٍ سياسي وأمني غير مسبوق، فيما كانت آخر طائرة روسية تُقلع من الساحل تحمل معها رماد عقدين من السلطة... ونظاماً غادر كما بدأ: في الظلّ.
ماهر في العتمة
اللواء ماهر الأسد قضى ساعاته الأخيرة في دمشق محاولاً ترتيب خروجه بنفسه، بعيداً عن القنوات الرسمية التي انهارت في تلك الليلة. داخل إحدى الفلل المحصّنة، جمع عدداً من رجال الأعمال المقرّبين وشخصيات اقتصادية نافذة، وطلب منهم الانضمام إليه في ما وصفه بـ"الانسحاب المنظّم" نحو حمص.
بحسب مصادر ميدانية اطّلعت على مجريات تلك الساعات، كان ماهر يخطط لإعادة تجميع القوات التابعة له في الفرقة الرابعة داخل ريف حمص الغربي، على أمل تشكيل "خط دفاع بديل" يمكن أن يُستخدم كورقة تفاوضية أو نواة لإعادة الانتشار. إلا أنّ الواقع الميداني كان أكثر قسوة مما تصوّر. الطرق المؤدية إلى الشمال كانت مقطوعة بفعل تقدم الفصائل المهاجمة، والوحدات التي ظنّ أنها ما زالت تحت إمرته كانت قد انسحبت أو غادرت مواقعها دون تنسيق مسبق.
مع اقتراب الفجر، كانت الاتصالات قد انقطعت بينه وبين القيادة العامة، فيما وردته تقارير تفيد بأنّ الحرس الجمهوري تلقّى أوامر بعدم الاشتباك. أدرك ماهر حينها أن المعركة حُسمت، وأن العاصمة خرجت من يده كما خرجت من يد شقيقه قبل ساعات.
في اللحظة الأخيرة، صعد إلى مروحية عسكرية صغيرة أقلّته نحو الشرق ــ ترجّح مصادر أنها توجّهت إلى منطقة في البادية السورية ــ تاركاً خلفه جيشاً بلا قيادة واضحة، وأجهزة أمنية مشلولة تتبادل الأوامر المتناقضة. ومع طلوع الضوء الأول، كانت دمشق تتنفّس الخوف والفراغ، فيما دوّى خبر رحيل الرجل الذي عُرف طويلاً بأنه "الذراع الحديدية للنظام".
سقوط الأجهزة الأمنية
في الساعات التالية، انتشرت الأخبار في دمشق كالنار في الهشيم. "الرئيس رحل"، قال أحد المساعدين عبر الهاتف قبل أن يختفي هو الآخر.
داخل المجمعات الأمنية، ساد الذعر والفوضى. أصدر مدير المخابرات العامة أوامره بفتح الخزائن وسحب الأموال، فيما شرع آخرون في إحراق الملفات وأجهزة الحواسيب لإتلاف ما تبقّى من أسرار الدولة. بعض الضباط حاولوا الوصول إلى مداخل السفارة الروسية في حيّ المزة بحثاً عن حماية، بينما فضّل آخرون تسليم أنفسهم للفصائل المهاجمة التي كانت قد وصلت إلى تخوم المدينة.
كان المشهد أقرب إلى انهيار دولةٍ بأكملها منه إلى سقوط نظامٍ سياسي. لم تُسجَّل مقاومة تُذكر بالمعنى العسكري، لم تُطلق قذائف ثقيلة، ولم تصدر أوامر بالتصدي. حتى أولئك الذين أصرّوا على القتال وجدوا أنفسهم بلا قيادة، ولا غطاءٍ جوي، ولا هدفٍ واضح.
المفارقة أن القوات الروسية، التي لطالما كانت الحليف العسكري الأوثق للنظام، تحوّلت تلك الليلة إلى وسيطٍ بين سلطةٍ تتداعى وثوّارٍ يتقدّمون. لم تكن معركة حسمٍ ميداني بقدر ما كانت عملية انتقال مُدارة بعناية بين طرفٍ يسلّم وآخر يستلم... بصمتٍ تامّ.
الاتفاق الروسي – الثوري
بعد أيام، بدأت تتسرّب تفاصيل كثيرة من خلف الكواليس. تبيّن أن الروس كانوا على تواصل مباشر مع قيادات المعارضة الميدانية قبل ساعاتٍ من سقوط العاصمة، وأن اتفاقاً غير معلن جرى في محافظة حماة، حين اقتربت خطوط الثوار من طريق دمشق الدولي.
لم يكن الاتفاق استسلاماً بالمعنى الحرفي، بل تفاهماً ميدانياً هدفه تجنّب تدمير المدينة. نصّ التفاهم، بحسب من اطّلعوا على مضمونه لاحقاً، على أن يدخل الثوار إلى دمشق من دون خوض معارك كبرى، مقابل ضمان خروج الرئيس ومن معه بسلام عبر القنوات الروسية.
هذا ما أكّده لاحقاً الرئيس أحمد الشرع في مقابلة تلفزيونية، حين قال بوضوح إنّ "مفاوضاتٍ جرت بين الروس والثوار قبل سقوط النظام"، وإنّ الهدف الأساسي كان "تجنّب معركةٍ دامية في المدن".
بتصريح الشرع، تحوّلت فرضية "الانسحاب التكتيكي" إلى حقيقةٍ سياسية موثّقة: النظام لم يُهزم عسكرياً فقط، بل سُلّم بترتيبٍ مسبق، في صفقةٍ أنهت الحرب بأقل الخسائر للطرفين... لكنها فتحت باباً واسعاً للأسئلة عن الثمن، ومن قبضه.
ما بعد الرحيل
في موسكو، غاب بشار الأسد عن المشهد العام. بعد أيام من سقوط العاصمة، منحته السلطات الروسية لجوءاً إنسانياً، ورتّبت له إقامة مؤقتة تحت حماية أمنية مشددة بعيدًا عن وسائل الإعلام. أمّا ماهر الأسد، فاستقرّ في إحدى الضواحي الهادئة للعاصمة الروسية، برفقة مجموعة من ضباطه السابقين. لم تصدر عن أيٍّ منهما تصريحات، لكنّ الصمت بين الشقيقين بدا كأنه العنوان الأوضح للمرحلة الجديدة.
في دمشق، كان الناس يخرجون فجراً لتفقّد المدينة. لا معارك، لا مدافع، ولا أعلام مرفوعة فوق الأبنية الحكومية. فقط فراغ واسع، وشوارع تراقب نفسها بصمت. على الحواجز المهجورة، كانت آثار انسحابٍ متعجّل، وفي الأحياء القديمة تناقلت الهمسات والشائعات كأنها محاولات متأخرة لفهم ما لا يُفسَّر. قيل إن الروس سلّموا مفاتيح القصر الجمهوري إلى القيادة الجديدة، وإن بعض الضباط الموالين ما زالوا مختبئين في بساتين الغوطة، لكن الحقيقة كانت أبسط من ذلك: النظام الذي حكم نصف قرن لم يسقط بطلقة، بل انهار من الداخل.
كانت ليلة السقوط لحظة تصفية حسابات مؤجلة بين الإخوة والأجهزة والداعمين. كل طرفٍ ظنّ أنه يحمي نفسه، فخسر كل شيء. الروس خرجوا بأقلّ الخسائر، والثوار دخلوا مدينة بلا حرب، والعائلة التي شيّدت جدار الخوف على مدى خمسة عقود غادرت تحت حماية من كانت سبباً في نفوذها.
وبينما انشغل العالم بتفاصيل "اليوم الأخير"، كان السوريون يعيشون نتيجته الأوضح: أن الخوف انتهى كما بدأ ــ في صمتٍ ثقيل، تحت سماء دمشق التي رأت كل شيء ولم تقل شيئاً.
شاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|