هل تصبح سوريا ملاذاً آمناً للجهادية العالمية؟
على مدار أكثر من عقد من الصراع المستمر، تحوّلت سوريا إلى ساحة جذب غير مسبوق للفاعلين الدوليين والإقليميين، وسط حالة من الفوضى التي أسهمت في بروز جبهات جهادية متشابكة. في هذا السياق، يبرز تساؤل مركزي: هل ستتحول سوريا إلى ملاذ دائم للجهادية العالمية؟ أم أن التغيرات الإقليمية والدولية، إلى جانب مواقف القوى الكبرى، ستُفضي إلى منع ذلك؟
الخلفية التاريخية: تطور الجهادية السورية والجولاني
قبل 2011، كانت سوريا خاضعة لنظام أمني صارم بقيادة بشار الأسد، يمنع فعلياً ظهور الحركات الجهادية على أراضيه. ومع ذلك، كان النظام السوري يلعب أحياناً ورقة الجماعات المسلحة لتحقيق مكاسب استراتيجية في صراعه الإقليمي.
مع اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، برزت شخصيات جهادية متعددة، أبرزها "أبو محمد الجولاني"، الذي شكل نقطة تحول في المشهد الجهادي السوري. بدأ الجولاني نشاطه ضمن تنظيم "القاعدة" في العراق، حيث التحق بصفوف الجماعة خلال فترة صعودها بعد الغزو الأميركي. في عام 2012، أعلن الجولاني تأسيس "جبهة النصرة" كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، بهدف مواجهة النظام السوري واستغلال حالة الفراغ السياسي والعسكري.
لكن التطورات اللاحقة أظهرت مساراً متقلباً. في 2013، ومع تصاعد قوة "داعش" بقيادة أبو بكر البغدادي، دخل الجولاني في صراع مع التنظيم الذي سعى إلى ضم جبهة النصرة. رفض الجولاني الانصياع للبغدادي وأكد ولاءه للقاعدة، ما أدى إلى انقسام واضح بين النصرة وداعش، وتحول سوريا إلى ساحة اقتتال داخلي بين التنظيمين.
في 2016، أعلن الجولاني فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وتشكيل "هيئة تحرير الشام" في محاولة لإعادة تموضع الجماعة وتقديمها كحركة جهادية محلية ذات أجندة سورية، بعيدًا عن الجهادية العالمية. هذا التحول الاستراتيجي عكس براعة الجولاني في التأقلم مع المتغيرات السياسية والعسكرية، حيث سعى إلى كسب دعم محلي ودولي عبر تقديم نفسه كقوة معتدلة نسبياً مقارنة بداعش.
الجغرافيا السياسية والفوضى كبيئة خصبة
ساهمت الجغرافيا السياسية السورية في تعزيز انتشار الجماعات الجهادية. فالمناطق الشمالية والشمالية الغربية، خاصة في إدلب، باتت تحت سيطرة فصائل غير منضبطة، أبرزها هيئة تحرير الشام، ما أتاح مساحات واسعة للتنقل وبسط النفوذ. إلى جانب ذلك، تُعد معسكرات اللاجئين، مثل مخيم الهول في الشمال الشرقي، بيئة خصبة لاستقطاب عناصر جديدة.
في ظل تصاعد العنف الطائفي، خصوصاً بدعم من التنظيمات الموالية لإيران مثل "حزب الله"، تستغل الجماعات الجهادية هذا الانقسام لتحقيق مكاسبها الأيديولوجية. تنظيمات مثل داعش وهيئة تحرير الشام تحاول تأجيج هذه الفوضى، عبر طرح نفسها كمدافع عن الطائفة السنية المظلومة، واستقطاب المقاتلين من داخل سوريا وخارجها.
دور القوى الغربية: فرنسا كنموذج لتحولات السياسة
منذ بداية الأزمة، تبنت فرنسا سياسة مركبة تجاه الصراع السوري. دعمت في البداية المعارضة السورية المعتدلة، لكنها سرعان ما وجدت نفسها أمام تهديد صاعد من الجماعات الجهادية مثل داعش والنصرة، مما أدى إلى تحول جذري في سياساتها.
مع تصاعد الهجمات الإرهابية على الأراضي الفرنسية، بدأت فرنسا بتبني سياسات أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي، سواء داخليًا أو خارجيًا. عززت من رقابتها الأمنية على المساجد والجمعيات الدينية، وشاركت في عمليات عسكرية خارجية، مثل "عملية برخان" في الساحل الإفريقي.
لكن رغم هذه الجهود، أدركت فرنسا أن مواجهة التهديد الجهادي لا يمكن أن تتحقق عبر القوة العسكرية وحدها. لذلك، ركزت على دعم الحكومات المحلية وبناء قدراتها السياسية والاقتصادية، في محاولة لمعالجة الجذور التي تغذي التطرف.
هيئة تحرير الشام: بين المحلية والعالمية
تُمثل هيئة تحرير الشام حالة خاصة في تطور الجهادية السورية. فمن جبهة النصرة، الذراع السورية لتنظيم القاعدة، إلى هيئة تحرير الشام، سعى الجولاني إلى إعادة تشكيل التنظيم كقوة محلية ذات أجندة سورية بحتة، بعيدًا عن الجهادية العالمية التي يمثلها داعش.
رغم ذلك، تواجه الهيئة تحديات كبيرة؛ فهي مطالبة بالحفاظ على توازن دقيق بين توجهها المحلي والضغوط الإقليمية والدولية التي ترفض وجودها. وفي الوقت نفسه، تواصل الهيئة فرض حكمها المتشدد في مناطق سيطرتها، ما يعيد إنتاج نماذج مشابهة لتنظيمات جهادية أخرى.
مستقبل سوريا: بين الفوضى والاستقرار
يبقى السؤال حول ما إذا كانت سوريا ستتحول إلى ملاذ دائم للجهادية العالمية أمراً معقداً. ففي ظل الفوضى السياسية وتعدد الفاعلين الدوليين، لا تزال الجماعات الجهادية تجد في سوريا بيئة خصبة للنمو والتوسع.
إن الفشل في معالجة الفراغ السياسي والهوياتي، إلى جانب الانقسامات الطائفية، يوفر أرضية خصبة لاستمرار هذه الجماعات. على غرار تجارب أخرى، مثل غزة، تُظهر سوريا كيف تتحول الإحباطات السياسية والهوية غير المحلولة إلى وقود لمشاريع الإسلاميين.
في الختام، تبدو قدرة القوى الدولية على احتواء الجهادية مرهونة بمدى استعدادها لتبني نهج جديد يتجاوز الإطار التقليدي للدولة الوطنية الذي تأسس في نظام ويستفاليا عام 1648. فإعادة تشكيل توازن القوى في سوريا، وسط بروز كيانات مثل هيئة تحرير الشام، يطرح تساؤلات حول مدى قدرة القوى الغربية على فهم تعقيدات المشهد الجهادي الحالي، وما إذا كانت استراتيجياتها قادرة على إرساء استقرار دائم في المنطقة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|