الصحافة

لبنان بين خيارين: البناء بالقرارات أو الانهيار بالإنكار

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في بلد يترنّح تحت ثقل الفقر والبطالة وتُنذر مؤشّرات التضخّم المستورَد يوميّاً بمزيد من تدهور القدرة الشرائية، تصبح الحاجة إلى تشريعات واضحة وجريئة أكثر من ضرورة، بل مسألة مصيرية. إذ لا يمكن أن تستمرّ السلطة التشريعية في الاكتفاء بدور مراقبٍ صامت، ولا السلطة التنفيذية بدورٍ إداريّ تقليدي. المطلوب اليوم إطلاق ورشة وطنية تُنتج قوانين تحفظ الحدّ الأدنى من الكرامة الاجتماعية، تكون بمنزلة حزام أمان اجتماعي فعليّ، لا شعارات شعبويّة.

لا يمكن الحدّ من الفقر بالمساعدات المتقطّعة أو ببرامج الدعم العشوائية، بل من خلال شبكة حماية اجتماعية قائمة على ثلاثة أعمدة: إعادة تشغيل دوائر الدولة بكفاية، وإحياء القطاعات الإنتاجية، وإعادة المصارف القادرة إلى لعب دورها الطبيعي لتكون أذرعاً للتمويل والتنمية.

المصارف: من القطيعة إلى الشراكة مجدّداً

لا يمكن الحديث عن نهوض اقتصادي فيما المصارف، التي يُفترض أن تكون محرّك الائتمان، تقف على هامش الدورة الاقتصادية. المطلوب اليوم، وقبل الغد، إقرار قوانين تُسهّل إعادة تفعيل المصارف القادرة، وفقاً لتصنيفات واضحة وشفّافة من قبل السلطة صاحبة الاختصاص في هذا المجال، أي لجنة الرقابة على المصارف، لتقوم بدورها في دعم الاقتصاد لا في تخزينه. وقد يكون كافياً لانطلاق هذه المسيرة بتصويب أداء المصارف وفق القوانين والإجراءات المتوافرة اليوم.

لا تُطلَق عجلة ترميم الثقة بين المصارف التجارية ومكوّنات المجتمع اللبناني، من أفراد ومؤسّسات، بزيادة رأس المال بل بالتواصل الإيجابي والمنتج. لم تعد خافيةً على المودع طبيعة مشكلة السيولة التي تعانيها جميع المؤسّسات المالية، فيما المصرفيّ، في المقلب الآخر، يعلم علم اليقين بأنّه لن يستطيع أن يتنكّر لحقوق المودعين إذا أراد الاستمرار في العمل وخدمة الاقتصاد الوطني. وأصبح من غير الممكن حجب الودائع عن الاقتصاد تحت ذريعة “عدم وضوح الرؤية”، بل يجب تحويل هذه الرؤية إلى قرار وطني جامع.

النّقد الورقيّ: أداة تعمّق الأزمة بدل حلّها

في المقلب الآخر من المشهد، لا بد من التوقّف عند السياسة النقدية، التي تتّخذ اليوم منحى يُثير القلق. فبدلاً من معالجة مشكلة الإفراط في استخدام النقد الورقي، وهي من الأسباب الجوهرية وراء إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل الماليّ، اختار صانعو القرارات والقوانين “تسهيل” التداول النقدي عبر التوجّه نحو السماح لمصرف لبنان بطباعة أوراق نقدية جديدة من فئتَي 500 ألف ومليون ليرة.

هذا القرار لا يُعالج أصل الداء، بل يفاقمه. إذ يعمّق ثقافة “الكاش”، ويزيد من صعوبة الرقابة، ويُغذّي السوق السوداء، ويُكرّس التهرّب الضريبي. وكان الأجدى اعتماد سياسة نقدية مضادّة: فرض غرامات على التعاملات النقدية التي تتجاوز حدوداً معيّنة (2,000 دولار مثلاً)، وتشجيع وسائل الدفع الرقمية والمصرفية، خاصة أنّ تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 165 يُعطي الأساس التشريعي اللازم لذلك.

الدّفع الرّقميّ: ليس رفاهيةً بل أداة إنقاذ

مع تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد “مدولر”، تصبح الحاجة إلى كميّات هائلة من الليرة اللبنانية محصورة بالمدفوعات إلى وزارة المالية، لا سيما الضرائب والرسوم. وهذا يدلّ على أنّ الإشكالية تنظيمية أكثر ممّا هي تقنيّة. ليس المطلوب طباعة أوراق نقدية من فئات جديدة، بل فرض إجراءات تشجّع، أو تُلزم، باعتماد وسائل دفع رسمية لتعزيز الشفافية الماليّة والمساهمة في مكافحة غسل الأموال وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي.

المساهمة في صندوق النّقد الدّوليّ: استثمار لا كلفة

في غمرة النقاشات المحلّية، تغيب عن الخطاب العامّ أحياناً قضايا ذات أثر استراتيجي كبير، ومنها مساهمة لبنان في صندوق النقد الدولي. يتعامل البعض مع هذه المساهمة بوصفها عبئاً، لكنّها في الواقع استثمار في القدرة التفاوضية والتمويلية للبلد. نظام الحصص في صندوق النقد، الذي يُحدَّد بناءً على مؤشّرات مثل الناتج المحلّي والانفتاح التجاري واحتياطي العملات الأجنبية، هو المفتاح لتحديد كمّ الأموال التي يستطيع لبنان اقتراضها، ومدى تأثيره في القرارات داخل الصندوق، ونصيبه من حقوق السحب الخاصّة (Special Drawing Rights – SDRs).

أيّ تخفيض في هذه الحصة أو التلكّؤ في زيادتها يُفقد لبنان أدوات ضغط تمويليّة وسياسية هو بأمسّ الحاجة إليها. إنّ رفع الحصّة ليس منّة من أحد على لبنان، بل هو قرار سياديّ ينبغي أن يُؤخذ بجدّية، لأنّه يُمكّن الدولة من الحصول على تمويلات بشروط تفضيلية تدعم مشاريع استثمارية وتنموية وتُقلّص الحاجة إلى الاستدانة من الأسواق بأسعار فائدة مرتفعة.

من إدارة الأزمة إلى قرار الخروج منها

المطلوب من السلطات اليوم ألّا تكتفي بـ”إدارة الأزمة”، بل أن تُبادر إلى الخروج منها. وهذا لا يتمّ بالتقشّف العشوائي ولا بالتوسّع غير المُبرّر، بل بسياسات ذكيّة تُعيد تفعيل أدوات الدولة: الضرائب، المصارف، النقود، والموقع الدولي.

تصويب الأداء الحقيقي لا يبدأ بالشعارات، بل بالقرارات الجريئة التي تضبط المسار وتجهّز لبنان لإطلاق مسار إصلاحي حقيقي طويل النفس. الإصلاح مكلف ومؤلم، ويجب التأكّد من الجهوزيّة الوطنية قبل المضيّ فيه.

من الأفضل اتّباع نهجٍ تدريجي للخروج من الأزمات المتراكمة لا أزمة واحدة فقط. المطلوب شراكة حقيقية بين السلطة الحاكمة والقطاع الخاصّ اللبناني، الذي أثبت قدرة استثنائية على الصمود والتكيّف مع المتغيّرات الاقتصادية والنقدية والاجتماعية والصحّية والأمنيّة. تكون البداية بتصويب الأداء وتوفير حزام أمان اجتماعي، وعنوان هذه المقاربة: العمل على ما هو مُمكن ومُنتج.

إمّا أن نعيد بناء لبنان عبر قرارات واضحة، عادلة، وشجاعة تعيد للدولة دورها الطبيعي في أن تكون ضامنة للحقوق ومُحفّزة للنمو، أو نستمرّ في شراء الوقت بسياسات إنفاق تشغيليّ عقيم، وطباعة أوراق نقدية تُغذّي اقتصاداً رماديّاً خارجاً عن السيطرة.

خيارنا اليوم ليس بين السهل والصعب، بل بين الإنقاذ والانهيار الكامل. فلبنان الذي قاوم الحروب والأزمات يرفض أن يتحوّل إلى دولة فاشلة، لكنّه يحتاج إلى من يجرؤ على اتّخاذ القرار، لا إلى من يكتفي بإدارة الأزمة انتظاراً للأسوأ.

محمد فحيلي - اساس ميديا

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا