الصحافة

الشّرع والأسد وجهاً لوجه..

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

اللغز الذي يحيّر المراقبين الآن ويزداد غموضاً مع الوقت، هو كيف تمكّن جهاديّ سابق في تنظيم القاعدة من إقناع العرب والعجم بقدرته على بسط الاستقرار في سوريا والنهوض بها اقتصاديّاً، ونسج علاقات عامّة فعّالة مع مكوّنات الشعب السوري، واجتذاب دعم كبار قادة العالم في مدّة وجيزة جدّاً، فيما فشل ابن الرئيس السوري الأكثر ذكاء وبراغماتيّة من بين رفاقه في حزب البعث، من تعلّم ولو جزءاً ضئيلاً من مهارات والده، في تحقيق أيّ وعد من وعوده على الرغم من كلّ الظروف التي ساعدته، والمُهل التي حصل عليها تباعاً منذ وراثته الحكم عام 2000 حتّى قبيل هروبه في 7 كانون الأوّل الماضي.

هل يمكننا القول إنّ أحمد الشرع محظوظ بخلاف عدوّه أم المشكلة في مكان آخر؟ في قراءة أوّلية، يبدو أنّ بشّار الأسد كان أكثر حظّاً من الشرع بكثير، فهو نجا في محطّات فاصلة، ابتداء من تخطّي الوراثة من دون أضرار كبيرة (2000)، ثمّ نجا من تهمة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري (2005)، ونجا بعد ذلك من تهمة الحكومة العراقية له بإرسال الانتحاريّين إلى بغداد (2009)، حتّى إنّه بعد انطلاق قطار الثورات العربية أواخر عام 2010، نجا في مرحلة أولى من اكتمال الموقف الأميركي ضدّه كما حدث مع الرؤساء التونسي والمصري والليبي واليمني، ثمّ نجا من تبعات اغتيال اللجنة الأمنيّة في دمشق (2012)، وفيها صهره آصف شوكت مع كبار القادة العسكريين والأمنيّين، ثمّ تخطّى الهزيمة العسكرية الساحقة عقب مسارعة روسيا لإغاثته (2014)، ونجا على وجه الخصوص عندما ظهرت الجماعات الجهادية في الساحات بدل التظاهرات السلمية، وهو المسؤول عن إطلاق سراح قياداتها بعفو مشبوه بعد أشهر قليلة من بدء الحراك الشعبي.

كانت ذروة الفرح والحبور، عندما انتشر تنظيم داعش في سوريا والعراق كالسرطان (2013)، وتشكّل حلف دولي لقتاله في خريف 2014، وأصبح بشّار الأسد ضمنيّاً جزءاً من هذا التحالف. بل إنّه بعد إلحاق الهزيمة الثقيلة بالمعارضة المسلّحة وحشرها في المناطق المحاذية للحدود التركية عام 2019، بات الأسد على وشك إعلان النصر النهائي، وبدأ مسارٌ آخر، لاستيعابه عربيّاً ودوليّاً، وأُعيد إلى القمم العربية. بعد ذلك، لا يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً كيف توصّل أحمد الشرع إلى إنجاز ما لم يتمكّن بشّار الأسد من إنجازه طوال 24 عاماً من وراثة السلطة، بل يحتاج الأمر إلى دراسات متخصّصة لتشخيص عبقرية الأسد الابن في هدر الفرص وتدمير الحظوظ التي توافرت له على طبق من ذهب، على الرغم من قصف شعبه بالبراميل المتفجّرة، وحصار المدن وتجويع سكّانها وتهجيرها، واعتقال مئات الآلاف من المدنيين للشبهة فقط أو من دون أيّ شبهة، إذ يكفي أنّهم من سكّان مناطق ثائرة، وقُتل كثير جدّاً منهم بالإعدام أو التعذيب، وهو ما وثّقته كاميرات المنشقّين عن النظام نفسه (قيصر، وحفّار القبور)، ووصلت الصور إلى الكونغرس الأميركي، وعلى أساس تلك المعلومات الموثّقة، صدرت عقوبات قاسية ضدّ النظام.

بين الحظّ والمهارة   

قبل عقد المقارنة بين الأسد والشرع، ينبغي الالتفات إلى مسألة مهمّة أشار إليها ابن خلدون ومكيافيلي، وهي دور الكفاية أو مهارات القيادة أو الفضيلة (Virtù) بالنظر إلى الحظّ (Fortuna) أو “البخت” الذي يتمتّع به الحاكم. ويتّفق الباحثان تقريباً على بُعد المسافة بينهما، كلٌّ منهما في قارّة، على دور الكفاية والحنكة والذكاء في التعامل مع الظروف أو الحظوظ، وفي تطويع الحاكم لها لمصلحته. فمنهم من يواجه ظروفاً أسهل ويفشل، ومنهم على العكس من ذلك تصادمه الأهوال، ويتمكّن من تخطّيها والوصول إلى برّ الأمان، ولربّما يكون القائد ذا كفاية عالية، لكنّ الظروف تعانده، وقد يكون بلا أيّ نصيب من المهارة السياسية والعسكرية، لكنّ الحظّ يلاحقه في كلّ خطواته.

أمّا الرئيس السوري الحالي، فجمع معاً بين الحظّ والقدرة، لا سيما في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد أصعب هزيمة واجهتها الفصائل المسلّحة في أرياف حماة وحلب وإدلب، عام 2019. كان يمكن أن تنتهي حياته السياسية والبيولوجية في تلك الحقبة السوداء. لكنّ الهزيمة كانت فرصة لمراجعة الأخطاء المرتكبة منذ انطلاق الثورة السوريّة. وجد الشرع أنّ مشكلة المعارضة في أنّ أقوى فصائلها هم الجهاديون الموسومون بالإرهاب (جبهة النصرة وتوابعها)، وأنّ المعارضة ككلّ، حتّى السياسية منها، لم تستطِع إقناع العالم بأنّها بديل صالح من النظام المجرم القائم. فعمل على معالجة كلّ هذه العوائق بدأب عجيب، وقدرة على التحوّل من شخصيّة إلى أخرى مختلفة تماماً.

أوّلاً، حارب الفصائل نفسها، لترويضها، وفرض وحدة السلاح، لزيادة الفعّالية في الميدان، وأنشأ جهازه المفضّل “الأمن العامّ” ليكون أداة الاستقرار قبل النصر وبعده. وثانياً، أسّس نموذجاً للحكم في إدلب، يقارب النموذج الغربي في الحوكمة، والنزاهة، والانتظام. والأهمّ من ذلك، قام بحملة علاقات عامّة مكثّفة لإقناع الغرب به شخصيّاً، فتواصل مع بعض الجهات المتخصّصة ومراكز الدراسات، وخاض حوارات مطوّلة مع معارضيه السوريّين، في إدلب وما حولها، واجتذب المؤثّرين في وسائل التواصل.

خطّة ذكيّة

أكمل بهذه المنهجيّة نفسها، عندما بدأ عمليّة “ردع العدوان” بمدينة حلب، فحرّرها، وأظهر نموذج التعامل مع الآخرين، سواء أكانوا من أنصار النظام السابق، أو من مكوّنات المجتمع، وصولاً إلى دمشق نفسها. وهذا التحوّل الجذري في شخصيّة الشرع، هو الذي قضى على حكم الأسد في 11 يوماً، وتمكّن في غضون خمسة أشهر فقط، من الانتقال من الكهوف والخنادق إلى مصافحة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ولفهم صعوبة ما جرى وأهمّيته في الوقت نفسه، جعل الشرع ماضيه الجهادي المقلق ميزة شخصيّة له بدل العكس، وبوّابة دخول المجتمع الدولي من أوسع أبوابه. كان حظّه عاثراً في البداية. فقد دخل العراق بتسهيل من النظام الأسديّ. لبث في السجن بضع سنين، وهناك بدأ بمراجعة المسار.

رسم خطّة ذكيّة للإفادة من علاقاته الجهادية، لتشكيل فصيل سوريّ بدعم من داعش. ولمّا حانت الفرصة، حارب داعش، وخسرت جبهة النصرة جزءاً كبيراً من قوّتها، لكنّه بذلك كسب المعارضة السورية. ثمّ انشقّ عن القاعدة، ليُرضي السوريين المعارضين. وأخيراً، تبنّى مقولات معارضيه من المجتمع المدني ومن الإسلاميين الجدد في الفصائل الأخرى، وأظهر كلّ ذلك بعد النصر. وهو مع ذلك محظوظ كثيراً، بالمكوِّعين باتّجاهه من أكثر خصومه شدّة داخل المعارضة نفسها، وهم شخصيّات ذات تأثير، وبالمكوّعين الجدد ضدّه من الجهاديين حتّى داخل هيئة تحرير الشام، بسبب انقلابه على نفسه، وعليهم. وهو محظوظ أيضاً بإعلان داعش الحرب عليه، وقبل ذلك بعداء نتنياهو له ودعمه الانفصاليّين في سوريا. كلّ هذه المواقف السلبية تقرّبه أكثر من هدفه لا العكس.

هشام عليوان -اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا