إقتصاد

لا إصلاح للمصارف قبل استعادة الثقة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود:

إبطال المجلس الدستوري الجزئي "لقانون اصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها" الذي يحمل الرقم 23/2025، أعاد النقاش حول وضع المصارف ومصيرها، سيما وأن الثقة لا تزال مفقودة بين اللبنانيين والمصارف. وكان مجلس النواب اللبناني قد أقرّ هذا القانون في 31 تموز 2025 بعد طول انتظار، في خطوة كان لا بد منها وفي الوقت الذي تُشكل مطلباً أساسياً من مطالب المؤسسات الدولية والدول المانحة، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، تمهيداً لإصلاح القطاع المالي المتعثر في لبنان. 

 وتجدر الإشارة الى أن أول المعترضين على "قانون إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها" حين كان لا يزال مشروعاً، كانت جمعية المصارف التي سجّلت ملاحظاتٍ عدّة على الصيغة الأولية للمشروع، وذلك في كتابٍ وجهته إلى رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي في 23 تشرين الثاني 2023. معتبرةً أن المصارف ليست بحاجة إلى إصلاح، بل هي بحاجة إلى إعادة الأموال التي اقترضتها منها الدولة وتلك التي أودعتها في مصرف لبنان، لتعيدها بدورها إلى المودعين.

إصلاح مع وقف التنفيذ

ومن اللافت أن يختلف الهدف المحدّد في الأسباب الموجبة للقانون والذي يتلخص "بوضع إطار قانوني حديث وفق أفضل المعايير الدولية المتبعة يفتقده التشريع المصرفي في لبنان وتحتاجه الحكومة فضلاً عن مصرف لبنان للتعامل مع الأزمات المالية كافة وفي مقدّمها الأزمة الحالية"، عن الهدف المحدد في المادة الثالثة منه والتي تنص على "تعزيز الاستقرار المالي ومعالجة حالات التعثر، وحماية الودائع في عملية التصفية والإصلاح، والحدّ من استخدام الأموال العامّة في عمليّة إصلاح أيّ مصرف متعثّر." 

وبغض النظر عن اختلاف اهداف القانون المطعون فيه بين الأسباب الموجبة والمادة الثالثة منه، فإن جل ما يهم المودعين من هذا القانون استعادة ودائعهم، في الوقت الذي يتضمن نصوصاً تربط تنفيذ عدد من أحكامه الأساسية بصدور قانونٍ لاحق، حيث تشير المواد 2 و14 و37 إلى تعليق تنفيذ القانون لحين إقرار ونشر قانون قيد الاعداد يتعلق بــ "الانتظام الماليّ واسترداد الودائع". الامر الذي يجعل من "قانون إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها" مجرد خطوة باتجاه تنظيم القطاع المصرفي مع وقف التنفيذ.

تخاذل وتواطئ يحول دون الاصلاح
ذلك أن انهيار القطاع المصرفي منذ اندلاع الأزمة المالية في لبنان عام 2019، ترافق مع تخلف السلطات المعنية عن سن التشريعات ووضع الاطر القانونية والتنظيمية لأصول التعامل مع الازمة المستجدة، الامر الذي انعكس تجميداً للودائع، توقّيفاً للتحويلات إلى الخارج، غياباً للمعايير المحاسبية الموحدة، وفقداناً للثقة بالقطاع المصرفي ككلّ. ليأتي اليوم، وبعد ما يزيد على الخمس سنوات من التدهور الحاصل، الطعن في "قانون إصلاح المصارف وإعادة تنظيمها" ليُضيف تأخيراً إضافياً على استعادة الثقة بالمصارف.

وقد تعثر القطاع المصرفي برمته من دون أن يُعلن مصرف لبنان عن افلاس أي مصرف منها، في حين أن تعثر المصارف من الناحية القانونية يُوازي افلاسها. حيث تمكنت هذه المصارف من المحافظة على استمراريتها على حساب المودعين ومدخراتهم، وتواطئ من المصرف المركزي والسلطة السياسية. علماً أنه كان للمماطلة في اقرار القوانين التي من شأنها اعادة تنظيم عمل المصارف لمواجهة تداعيات الازمة، الدور الأساسي في استمرار تعثر القطاع المصرفي وتخلفه عن القيام بدوره المحوري في الأنشطة الاقتصادية.

وقد سمحت هذه المماطلة للمصارف في الاستمرار باحتجاز اموال المودعين، ووضع القيود على السحوبات أو ما يُعرف بـ "الكابيتال كونترول" من جهة، وتطبيق "الهيركات" بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان من جهةٍ ثانية، ومن دون أي مسوغ قانوني في كلتا الحالتين، بالإضافة الى الاستنسابية التي اعتمدتها في التحاويل. الامر الذي أفقد المصارف صدقيتها وحال دون عودة ثقة المودعين بها، ودون عودتهم الى اعتمادها في عملياتهم المالية وخاصةً تحويلاتهم، ما تسبب بزيادة تكلفة هذه العمليات وزيادة المخاطر التي ترافقها. 

والقانون المطعون فيه لا يهدف فقط إلى حلّ الأزمة الحالية وحسب، بل إلى منع تكرارها في المستقبل من خلال وضع ضوابط ومعايير محاسبية، وحوكمة سليمة، وأدوات تدخل قانونية واضحة وشفافة، تحاكي النماذج المعتمدة دولياً في إدارة الأزمات المصرفية. ذلك انه من الصعب أن تعود عجلة الاقتصاد الى دورانها الطبيعي مع استمرار تعثر المصارف، كون هذا القطاع يُشكل العمود الفقري لبقية القطاعات الاقتصادية، فنهوض القطاع المصرفي من كبوته شرط لانتظام أنشطة القطاعات الاقتصادية. 

خطوات باتجاه الإصلاح المنشود
وفي الوقت الذي يصعب فيه أن يحل الأزمة من تسبب بها أو ساهم في نشوئها، الا أن مصلحة المصارف في استعادة دورها لجهة قبول الودائع ومنح القروض تفرض عليها المبادرة الى البحث عن الحلول المناسبة، ليس للقطاع المصرفي وحسب، لا بل لشركائها الاقتصاديين كافة وخاصة منهم المودعين الذين يجب المحافظة على حقوقهم. 

ولا بد للمصارف من العمل بالتوازي مع اعداد "قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع" أو "قانون الفجوة المالية" لاستعادة الثقة، ولا جدوى من الرهان على عامل الوقت لحل الازمات فالوقت يمر والازمة تزداد تعقيداً، ومرور الوقت يجعل الحلول اكثر صعوبة وبعيدة المنال.

انطلاقاً مما تقدم، فان الطريق لاستعادة المصارف ثقة شركائها الاقتصاديين واستقطاب مودعين ومستثمرين جدد، لا بل استعادة ثقة الاطراف الاقتصاديين كافةً، واستعادة دورها المحوري في الانشطة الاقتصادية، تبدأ بأربع خطوات أساسية. أولها إعادة رسملة المصارف من اموال المساهمين تمهيداً لإعادة هيكلتها حيث تستمر المصارف المليئة بهوياتها الحالية ليتم دمج المصارف الأخرى الأقل ملاءة فيها، وإلا لن يكون هناك من بديل سوى مصارف جديدة او فروع لمصارف اجنبية. 

وتتمحور الخطوة الثانية حول إعادة ربط لبنان بالأسواق المالية العالمية من خلال التقيد الصارم بالمعايير الدولية وبقواعد إدارة المخاطر التي سبق وحددتها لجنة بازل، التي تفرض اختياراً مدروساً لعملية الاقراض وفقاً لمعايير التحوّط والاحتراز، وترشيق القطاع المصرفي ورفع انتاجيته، ما يجعل منه مجدداً قطاعاً موثوقاً، الامر الذي يُساهم في تخفيض المخاطر السيادية وبالتالي تحسين تصنيف لبنان السيادي. 

اما الخطوة الثالثة فهي مبادرة المصارف الى وضع خطة واقعية لإعادة الودائع، بحيث ترفع من مساهمتها في قيمة سحوبات المودعين الشهرية بحسب تعاميم مصرف لبنان وبالتفاهم معه، خطة تتخلى بموجبها المصارف عن تصنيف الودائع بين "مؤهلة" و"غير مؤهلة"، وتحرص فيها على إعادة ودائع صغار المودعين خلال مهلة عشر سنين كحدٍ أقصى مع الحرص على تقليص خسائر المودعين، ذلك أن تقليص حجم هذه الخسائر يُسرّع في استعادة ثقة المودعين بالمصارف، ويشجعهم على العودة الى إيداع أموالهم فيها مستقبلاً. 

فيما الخطوة الرابعة والأخيرة تتلخص في عودة المصارف الى منح القروض الى الافراد والمؤسسات، من خلال استخدامها لجزء من الأرباح التي سبق أن حققتها. ذلك أن استعادة المصارف لثقة زبائنها فيها من أفرادٍ ومؤسسات، يتطلب منها أن تثق هي بهم اولاً وأن توفر لهم التمويل المناسب لاستثماراتهم وغيرها. لتعود هذه المصارف محور الاقتصاد وشريانه الحيوي، تؤدي دور الوسيط المالي بين الادخار والاستثمار، وتؤمن التمويل لمختلف القطاعات التجارية والصناعية والخدماتية. 

هذه الخطوات الاربع التي على المصارف السير فيها، يجب ان تتزامن مع خطوات من السلطتين المالية والنقدية تحميها وتوفر الظروف المواتية لتطبيقها وبلوغ أهدافها. وذلك انطلاقاً من مسؤولية الدولة عن إدارة الاقتصاد، ولا سيما استمرارية القطاع المصرفي، فضلاً عن مسؤوليتها عن الحفاظ على حقوق المواطنين وودائعهم. 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا