الصحافة

ماذا تريد يا دولة الرئيس؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تحوّل سعد الحريري إلى صيّاد فرص. ينتظر فرصة لينقضّ عليها. وليحاول عبرها تقديم أوراق اعتماده مجدّداً لمن يعنيهم الأمر. ثمّ حين تصطدم رغبته بالواقع المستحيل، يبتعد ويغيب. بانتظار فرصة أكبر، وظروفٍ أشدّ وقعاً وتأثيراً.

وبانتظار “الوقت الحلو” الذي يعد به سعد الحريري أنصاره منذ العام 2023، ثلاثة غيابات وثلاثة انطباعات تركها خلفه رئيس تيار المستقبل عبر الخطاب الذي ألقاه نهار الجمعة الفائت أمام ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

 في الغيابات سُجلت ثلاث نقاط أو قضايا غائبة:

1- غابت بيروت وشؤونها عن خطابه أمام الضريح، وغابت معها غالبية المناطق السنية الوازنة التي عانت ما عانته على مدى السنوات العجاف، لا سيما بعد الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخ لبنان.

2- غابت قضية الموقوفين الاسلاميين تماماً عن الخطاب، رغم تصدرها لأولويات الساحة السُنّية في لبنان، مع استمرار الظلم لشبان تهمتهم مناصرة الثورة السورية ومعارضتهم لنظام بشار الأسد وحليفته إيران.

3- غاب حزب الله عن الخطاب، كمدان عبر عناصر منتمين له في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وفقاً لحكم المحكمة الدولية، فاستعيض عنه باتهام نظام بشار الأسد، بما يشبه التراجع عن الاتهام القضائي إلى الاتهام السياسي الذي ساد عقب الاغتيال الكبير عام 2005.

في المقابل، ترك الخطاب أمام الضريح ثلاثة انطباعات:

1- أن العزلة العربية، وتحديداً السعودية، التي يعيشها الرئيس سعد الحريري منذ سنوات ما تزال مستمرة دون حل.

2- أن إدارة تيار المستقبل في الانتخابات البلدية والنيابية المقبلة بيد عمته بهية ونجلها أمين عام التيار.

3- أن الأزمة المالية داخل التيار ما تزال مستمرة، ومؤشرها الاعتماد على عدد من المتمولين والطامحين للنيابة في تمويل جزء من الاحتفال، خصوصاً لجهة تأمين وسائل النقل واحتياجات المشاركين.

أنجز تيار المستقبل ورئيسه المهمة بنجاح في الذكرى العشرين للاغتيال. الصورة جاءت ناجحة وكما خُطط لها من حشد شعبي وخطاب شعبوي والتفاف سياسي داخلي، لكن يبقى السؤال أين يصرف كل ذلك؟

صيّاد الفرص

في ذكرى اغتيال رفيق الحريري العام الماضي، جاء سعد الحريري إلى بيروت وهو يمتطي فكرة الاعتدال في مواجهة الجنوح نحو التطرّف. كان فريقه اللصيق قد أعدّ ووزّع تقارير بالغة التكثيف عن الحالة السنّية الخطيرة في البلاد. وعن صور “أبو عبيدة” التي ارتفعت في الطريق الجديدة واجتاحت سواها من المناطق، لا سيما تلك التي تُعبّر بكلّ وضوح عن الحرارة السياسية للسنّة في لبنان. علاوة على خطاب ديني بدأ يسلك مساراً متمايزاً عن الوتيرة الطبيعية للوجدان السنّي العامّ على مدى عقدين من الزمن.

أراد عبر زيارته تلك، وما رافقها من حضور جماهيري، أن يبعث رسالة شديدة الوضوح، مفادها أنّه لا يزال قادراً على الإمساك بالأرض، وعلى استعادة الجماهير العريضة قبل تسرّبها المؤكّد نحو خيارات راديكالية مشابهة لحركة “حماس” أو لـ”الحزب”. لكنّ من يعنيهم الأمر تعاطوا ببرودة شديدة مع رسالة من هذا النوع، وكانت جُلّ معطياتهم تؤكّد أنّ ما يُساق عن حراجة الوضع السنّي فيه الكثير من التهويل المصطنع، وأنّ الأمور لا تتجاوز منطق التفاعل الطبيعي والمجرّد مع زلزال موصوف يجتاح المنطقة برمّتها.

ركّز سعد الحريري في خطابه المقتضب يومذاك على فكرة الوسطيّة التي حملها رفيق الحريري، وقد حاول عبرها أن يمرّر رسائل سياسية في كلّ الاتّجاهات، بالتوازي مع جوّ عامّ يشي بأنّ المحور الإيراني في المنطقة ذاهب نحو انتصار لا لبس فيه، وأنّ “الحزب” بات أمراً واقعاً لا فكاك منه. ولذا قد تفترض إعادة ضبط التوازن السياسي العودة عن الاعتكاف، وهذا ما لم يحدث، فعاد الرجل من حيث أتى.

تلاحق تغيّر الوضع برمّته على نحو دراماتيكي. بدأ المحور الإيراني بالانهيار. وبدأت رحلة الضربات القاتلة التي تعرّض لها “الحزب”، وصولاً إلى اغتيال أمينه العامّ، وتوقيعه لاتّفاقٍ بطعم الهزيمة الناجزة. ثمّ سقط نظام الأسد في سوريا، وتمّ انتخاب جوزف عون رئيساً، وتكليف نوّاف سلام برئاسة الحكومة، وتعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية السورية.

الخشية من الاندثار

دغدغت كلّ هذه التطوّرات رغبة سعد الحريري بالعودة إلى ممارسة نشاطه السياسي، وذلك من بوّابة الذكرى العشرين لاغتيال والده، وقد اعتمد في خطابه العلني والمباشر على ثوابت تُشكل بحدّ ذاتها نقاط إجماع على الصعيد المحلّي والعربي والدولي، وفي مقدَّمها دعم جوزف عون، ثمّ دعم نوّاف سلام وحكومته الوليدة، وصولاً إلى احتواء الشيعة بخطاب تطمينيّ، ودعوتهم إلى الانخراط في العملية الوطنية، بعيداً من أيّ رهانات خارجية.

ابتعد الحريري تماماً عن توجيه أيّ انتقاد مباشر لـ”الحزب”، واكتفى بكلام عموميّ وشعبويّ عن سقوط بشار الأسد ونظامه، وامتنع عن الاقتراب، ولو بالإشارة أو التلميح، إلى القيادة الجديدة في سوريا، وإلى الرئيس أحمد الشرع. وهذه العوامل كلّها تشير إلى الرسالة العلنية التي أراد إرسالها مجدّداً لمن يعنيهم الأمر، ومفادها هذه المرة: الدعم المطلق للعهد الجديد. تحصين الوحدة الداخلية. وحماية سنّة لبنان من الانجراف خلف أيّ مشروع قد ينشأ مستقبلاً في دمشق.

أمّا المضامين العميقة للخطاب وللحشد الشعبي الذي تمّ التحضير له بعناية، فهي إعادة شدّ العصب نتيجة الخشية الحقيقية من الاندثار الكامل للزعامة، لا سيما مع إمساك نوّاف سلام برئاسة الحكومة، وهو الشخصية البيروتية المعروفة على نطاق عالمي، وابن البيت السياسي الذي يحضر في وجدان أهل بيروت بشكل خاصّ، وفي الوجدان السنّي بشكل عامّ، والمشكلة  طبعاً ليست في شخصيته، بل في توثّبه الواضح والملموس نحو إحداث تغييرات جذرية، قد يكون ضحيّتها عدداً كبيراً جدّاً من المحسوبين على تيار المستقبل، لا سيما في مسألة التعيينات المرتقبة. فقد بدا أنّ طريقة تعاطيه في انتقاء الوزراء قد تنسحب على التعيينات، وهو ما يعني إخراجهم تماماً من غالبيّة مؤسّسات الدولة، وتحديداً من المواقع المتقدّمة والحسّاسة.

كان سعد الحريري مرتاحاً لمسيرة نجيب ميقاتي وسلوكه السياسي في رئاسة الحكومة، وكان مرتاحاً أيضاً إلى انعدام قدرة خصومه على ملء الفراغ الذي تركه. وقد عمد إلى سياسة طحن العظام عبر كلّ مجموعاته في الانتخابات الأخيرة عام 2022، ولم يكن هدفه الحصول على نوّاب مقرّبين إليه، بل منع خصومه من النجاح، وهذا ما حدث تماماً. ولذلك لم يكن سعد الحريري معنيّاً بالناس على الإطلاق. وهو منذ ترك البلاد، ترك الناس أيضاً، حتى في عزّ أزماتهم الاقتصادية والمعيشية. كان مرتاحاً جدّاً إلى انعدام قدرة أحد على إحداث أيّ خرق جدّي ومؤثّر في المشهد السنّي، وإلى أنّ الأمور ستعود وتؤول إليه في نهاية المطاف. لكنّ تكليف نوّاف سلام قلب المشهد رأساً على عقب.

حجر عثرة

رمى الرجل أوراقه ورسائله، ثمّ حسم مسألة العودة عن تعليق العمل السياسي، لكنّه ترك الباب موارباً في ما يتعلّق بصيغة العودة وشكلها ومضمونها. وقد سرّبت بعض أوساطه أحاديث متقاطعة عن رغبته بالعودة المباشرة، وهمساً عن خطط بديلة، في مقدَّمها تكليف السيّدة بهيّة الحريري بإدارة العملية السياسية والتنظيمية في المرحلة المقبلة.

هذه الهجمة المباغتة بعد طول غياب قد تؤسّس لإشكالية جدّية في الانتقال نحو لبنان الجديد، لا سيما لجهة تطويق رئيس الحكومة في الكواليس، والعمل على إفشاله وتكسير صورته أمام الرأي العامّ، ومنعه من الذهاب بعيداً في لعبة التغيير المفترض. وهنا تماماً تكمن قمّة الأنانيّة، إذ لا يجوز أن تترك أهلك وناسك على مدى سنوات، ثمّ تعود فجأة لتحصين مصالحك ومكتسباتك، ضارباً عرض الحائط برغبة اللبنانيين بالتقاط هذه الفرصة الاستثنائية لتنظيف الدولة والانتقال نحو لبنان الجديد.

لا يُمكن فهم حركة سعد الحريري المستجدّة خارج هذا الإطار الضيّق، وهو يحاول التنقّل بين الألغام عبر موقف سياسي مبهم ومرتبك، تارةً بالاعتذار عن أخطاء الماضي والاعتراف بوقوعها من دون إضافة أيّ معالجات، وطوراً بتزكية العواطف الجيّاشة والاستعراضات الشعبوية الفولكلورية على حساب تقدير سياسي واضح ورصين.

يعود سعد الحريري لكسر مشروعيّة نواف سلام السياسية والشعبية، باعتباره أبرز وجوه التغيير المفترض، وليحافظ قدر الإمكان على ما بقي من حصص ونفوذ داخل اللعبة السياسية المقيتة، وهو بدل أن يبادر إلى إعطاء فرصة من الهدوء للرئيسين المتوثّبين لقلب الطاولة، يذهب نحو إعادة النفخ في الحريرية السياسية، بعدما ركنها طويلاً في جيب نجيب ميقاتي.

ماذا تريد بعد يا دولة الرئيس؟ نقول لك بكل تجرّد. هذه فرصة تاريخية قد لا تتكرّر مرّتين. لا تخرّبها. ولا تعتذر لاحقاً عن تخريبها. دع البلاد تسلك درب التغيير. ولا تكن حجر عثرة في طريقها.

قاسم يوسف-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا