الصحافة

"النافعة" بين الاختلال الإداري ومتاهة الفساد... العين على دور وزير الداخليّةّ!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

على مشارف كل أزمة جديدة، تبدو "النافعة" كأنها مسرحٌ لفصول متكررة من الفوضى الإدارية، حيث يتشابك العجز التقني مع الاستغلال المالي، وتتقاطع المحسوبيات مع ممارسات تُعيد تعريف الفساد كمؤسسة قائمة بذاتها. فمنذ سنوات طويلة، كانت "هيئة إدارة السير والآليات والمركبات" في لبنان، مختبراً مفتوحاً لكل أنواع الإخفاقات، بدءا من تعثر العمل بفعل الإضرابات، مرورا بتوقف المعاملات بسبب الأزمات السياسية، وصولًا إلى الانكشاف التام لملفات التلاعب والتزوير، الذي أصبح كالقاعدة لا الاستثناء.

في هذا الفضاء المشحون، لا تُعامل دفاتر السوق بوصفها وثائق رسمية، بل تعتبر أقرب إلى أوراق لعب تُوزَّع وفق منطق النفوذ والرشوة، فتُسجَّل السيارات بهويات مزدوجة، وتُمنح تراخيص بصفات مغلوطة، بينما المواطن العالق في هذه المتاهة يُساق بين الدوائر الإدارية كما يُساق التيه بين السراب. في جميع الأحوال، هذه الازمات ليست سوى انعكاس لمشكلة أعمق، حيث تصدّعت البنية الإدارية بفعل غياب الرقابة، واندثرت الشفافية أمام منظومة مصالح مترابطة تُعيد إنتاج نفسها مع كل محاولة إصلاح.

التحديات النقدية وحدها السبب!

يقول مصدر في هيئة إدارة السير لـ "الديار": "من المؤكد لم يكن الانهيار الاقتصادي سوى الحاضنة المثالية لازدهار هذا الفساد، إذ في ظل تلاشي الحضور المؤسسي للدولة، من الطبيعي ان تتراجع قدرة الرقابة الرسمية على ضبط المخالفات، لذلك وجد السماسرة والموظفون الفاسدون في هذا الفراغ فرصة لتوسيع نطاق نفوذهم، عبر تسعير الخدمات التي يُفترض أن تكون حقوقا مكتسبة. وبذلك، بدلا أن تكون النافعة مرجعا قانونيا لتنظيم قطاع المركبات، أمست ساحةً تُباع فيها الاستثناءات، حيث يتم تجاوز الإجراءات الرسمية مقابل مبالغ تُدفع تحت الطاولة، ليصبح امتلاك دفتر سوق مطابق للمواصفات أشبه بمعركة يخوضها المواطن في وجه منظومة تحترف التعطيل والمراوغة".

ماذا عن الحواجز الأمنية؟ يجيب المصدر "يُفترض أن تكون آخر خط دفاع عن القانون كونها المِرآة التي تعكس حجم الكارثة. وقد كشف التدقيق في المركبات عن مدى الفوضى المتفشية في سجلات التسجيل. وهناك عربيات سُجّلت بمواصفات غير مطابقة، وبالرغم من ذلك يمضي المستفيدون الفعليون قدما في توسيع نفوذهم داخل هذه الشبكة التي يتداخل فيها المال بالسلطة".

ازمة إدارية ام انحلال كلي!

يشدد المصدر على ان "ما يحدث اليوم في "النافعة" ليس مجرد أزمة إدارية، بل هو صورة مصغرة لاضمحلال الدولة في أحد أبرز قطاعاتها الخدمية، حيث صار المواطن الحلقة الأضعف في معادلة تُرسم فيها القوانين بالحبر السرّي، ويُعاد إنتاج الفوضى كلما اقتربت ساعة المحاسبة". والسؤال الذي يطرحه المواطن حول مخالفات موظفي هذه المؤسسة: هل تكون هذه الفضيحة محطة لإعادة تصويب المسار، أم مجرد عثرة أخرى في طريقٍ لم يعد يقود إلا إلى مزيد من الانحدار؟

دفاتر السوق... بين متاهات الفوضى ومصيدة الحواجز الأمنية

من جهة أخرى، وفي ضوء المعلومات التي حصلت عليها "الديار" بشأن وجود أخطاء بالجملة في البيانات، تواصلت مع عدة مصادر للتحقق، وتأكدت ان هذه الأغلاط تشكل معاناة للمواطنين حيث يضطرون الى الذهاب والإياب عدة مرات ما يزيد من الاعباء عليهم ويعطل معاملاتهم واشغالهم.

بناء على ما تقدم، بات الفساد في هذه الإدارة أشبه بمركبة تسير بلا كوابح، تترنح بين الاضطراب والوساطات، حتى اصطدمت أخيراً بحواجز أمنية فضحت أعطاب دفاتر السوق وزلاتها الفادحة. وقد علمت "الديار" انه مع بدء توزيع هذه الدفاتر، تبين أن بعض المركبات تحمل هويات مزوّرة لا تمتّ الى مواصفاتها الأصلية بصلة، فكيف لشاحنة ضخمة أن تتنكر بلباس "ميني باص" أو لسيارة "رابيد" أن تصبح بيك آب في السجلات؟

ولم تتوقف هذه "الخربطة" عند العيوب الورقية، بل تحوّلت إلى معاناة يومية للمواطن الذي يتنقل بين أروقة هيئة إدارة السير محاولاً تصحيح بيانات مركبته، ليجد نفسه عالقا في حلقة مفرغة بين الوعود والمماطلات، فيما سيارته محتجزة على أحد الحواجز الأمنية، وكأنها رهينة خطأ لم يرتكبه.

أما بالعودة الى كواليس "مغارة علي بابا"، فيتحدث موظف في أحد مكاتب تخليص معاملات السوق لـ "الديار" عن مشهد أكثر قتامة قائلا: "لقد خرجت عمليات الكشف على المركبات من جدران "النافعة" إلى مساحات من الفوضى المنظمة، يديرها سماسرة بقبضات مفتوحة وموظفون يتغاضون مقابل "أتعاب" باهظة. ويضيف، بـ 400 دولار، يمكن للسيارة أن تحظى بفحص خاص، لا في مراكز الكشف المعتادة، بل في منزل مالكها أو في معارض السيارات، ليتم تمرير ملفها عبر القنوات الخلفية وكأنها اجتازت التدقيق الرسمي، في لعبة يختلط فيها النفوذ بالمال، وتُباع فيها الشرعية لمن يدفع أكثر والمواطن هو الضحية الأولى والأخيرة".

والسؤال الأهم هنا: هل يكون تصحيح الدفاتر بداية لتصحيح المسار مع بداية العهد الجديد، أم أن الأمر سيبقى مجرّد تصدّع آخر في جدار الثقة المهترئ؟

يُذكر انه على مدى السنوات الماضية، وصولا الى بداية العام الحالي، تحولت "النافعة" الى دائرة "مش نافعة" وأصبحت مسرحا فوضويا تُدار فيه الصفقات المشبوهة على حساب حقوق المواطنين. وغدت جسدا ينخره الفساد، وتنهشه قوى الظل التي تسربت إلى مكاتبه، حيث لا معيار سوى المال، ولا إجراءات إلا تلك التي تتشكل وفق مزاج المتاجرين وأهواء النافذين.

ألغام بيروقراطية بسبب "اللخبطة"

في ضوء هذا الهرج، اضحى دفتر السوق قنبلة موقوتة، يحملها المواطن بين يديه وهو لا يدري متى ستنفجر على حاجز أمني أو في دائرة رسمية أخرى. لم يعد التسجيل مجرد إجراءٍ روتيني، بل صار مغامرة محفوفة بالأخطاء الفادحة، حيث يمكن أن تتحول شاحنة ضخمة إلى مجرد "فان"، أو أن تُسجَّل سيارة صغيرة بمواصفات شاحنة نقل ثقيلة. هذه الفوضى التي تسللت إلى دفاتر السيارات جعلت المواطنين أسرى لأوراقهم الرسمية، يطاردون معاملاتهم بين المكاتب كمن يلاحق السراب، فلا يجدون سوى الجدران الصماء تبتلع مطالبهم بلا مجيب.

النظام الإلكتروني: تكنولوجيا مختطفة في دهاليز السمسرة

وفق العاملين في "النافعة" لم يكن النظام الإلكتروني نافذة لخدمة المواطن، وانما بوابة لا يفتح قفلها الا لمن يدفع أكثر. تعطل المنصة الإلكترونية لم يحدث بسبب خلل تقني، بل كان مدخلا خلفيا يتسلل منه السماسرة، فارضين تسعيرة غير رسمية على المواعيد. فصار على المواطن إما أن يدفع ليحظى بدوره، أو أن يرضخ لانتظار قد يمتد الى أشهر. مما يعني ان التوقف ليس من باب الصدفة، بل كان حلقة في منظومة محسوبة بدقة، فاذا بالطوابير الإلكترونية تتحول إلى سوق سوداء تُباع فيها الحقوق الأساسية لمن يملك ثمن الإتاوة.

الشركات المتعهدة: نزاعات المصالح أم مصالح النزاعات؟

كمن يتصارع على غنيمة، وجدت الشركات المتعهدة في النافعة حقلا لا ينضب من الصفقات. فكانت العقود تجمّد، والمستلزمات تُحتجز، فيما يدفع المواطن ثمن صراع النفوذ بين الجهات المتعاقدة والادارة. لم يكن تأخر تسليم اللوحات والبطاقات البلاستيكية سوى انعكاسٍ لهذه النزاعات التي تُدار في الغرف المغلقة، حيث تختلط المصالح المالية بالمساومات السياسية، ليبقى المواطن عالقا في دوامة الانتظار التي لا تنتهي.

نحو إصلاحٍ مجهول المصير

الآن، ومع تعيين وزير الداخلية الجديد، العميد أحمد الحجار، يطرح السؤال نفسه: هل سيتمكن من اقتلاع بؤر الفساد هذه من جذورها، أم أن النافعة ستظل مستنقعا تتكاثر فيه الأزمات كالأمراض المزمنة؟ هل سيجتاح هذا الهيكل المتداعي بمعول الإصلاح، أم أنه سيتحول إلى مجرد مسؤول آخر يراقب الفوضى دون أن يجرؤ على مواجهتها؟ بين الانتظار والإصلاح، يقف المواطن اللبناني حائرا، متسائلا إن كان هذا الكابوس البيروقراطي سيجد نهايته يوما، أم أنه قدرٌ محتوم لن يتغير مهما تبدلت الوجوه والعهود.

في الخلاصة، يجب منح العهد الجديد كل الفرص اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية، لذلك من المبكر الحكم على أداء الحكومة الحالية. لكن دورنا كإعلام ان نواصل تذكير المسؤولين والمطالبة بتحقيق التغيير، لعل الذكرى تنفع وتساهم في دفعهم نحو تحقيق الإصلاحات المنتظرة.

ندى عبد الرزاق - الديار

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا