الإعمار بيد الله...
يوم كانت الحرب في حمأتها قبل أشهر، حلّ أبو عباس ضيفاً علينا في بيروت. أقبل أبو عباس المغرم بـ"حزب الله" هارباً من النبطية، وأصبح فرداً من عائلة المقهى الصغيرة: يرتشف قهوته معنا كل صباح وينفخ نَفَسَ أرجيلة "نكهة" بعد الظهر.
استطاع صديقنا الجنوبي الذي حلّ ضيفاً لدى أخت زوجته في حيّ الطمليس، أن يتأقلم سريعاً مع أهل الطريق الجديدة. كان أبو عباس يعبّر عن شعوره بأريحية كاملة خلال جلساتنا الطويلة داخل المقهى. يخبرنا عن تحضيرات "الحزب" في ضيعته وعن بطولات الشباب على الجبهة. لكن بعد احتدام الحرب وتواتر الخسائر البشرية والمادية، راحت حماسته تتراجع رويداً رويداً. تخلى أبو عباس عن الدعم المطلق لـ"الحزب" وبدأ التخبّط بداخله... عقله يخبره حكايات بينما قلبه يقاوم.
أمسى أبو عباس يشاهد شاشة التلفاز المزروع فوق رؤوسنا على الحائط كل صباح متابعاً آخر الأنباء من الجنوب والضاحية الجنوبية، ويضرب كفاً بكف مع مراقبة الدمار وهول القصف الإسرائيلي على الأبنية المحاذية للعاصمة بيروت وفي قرى الجنوب والبقاع ويقول: "راح الجنوب راح... راحت الضاحية راحت.. بس رح ننتصر ونرجّعها أحلى مما كانت".
كانت تلك الجملة تستفزّ أبو سامي، جارنا البيروتي المحافظ الذي نادراً ما يعبّر عما يختلج في صدره (كعادة البيارتة: سكّر الباب يا أبي ما إلنا دخلة). كنت أراقب أبو سامي، خلسةً، كيف كان يتمتم بكلام غير مفهوم كلما سمع أبو عباس ينطق بتلك الجملة، وغالباً كان يكيل السباب والشتائم للحرب والمتحاربين لكن من سكات... إلى أن جاء ذاك اليوم الذي خرج به أبو سامي عن طوره، وصرخ بوجه ضيفنا الجنوبي قائلاً: "لك قووووم بقا. فلقتنا رح ترجع ورح ترجع... ارجع أنت على الجنوب بالأول بعدين تعا إحكي".
غيظ أبو سامي لم يكن نابعاً من حقدٍ طائفيّ أو مذهبيّ لا سمح الله. فلأبي سامي علاقة مصاهرة لناحية ابنته مع شاب شيعي من الجنوب. لكن قبل حرب المساندة بأيام اشترى أبو سامي قطعة أرض في منطقة جنوبية متقدمة، ويقال إنّها جنوب نهر الليطاني، عليها منزل قرميدي جميل مع حديقة من حوله، يتباهى أبو سامي أنها اشتراها "لقطة" وبأبخس الأثمان. ويقال أيضاً إنّ المنزل تهدّم بالكامل في أولى أيام الحرب نتيجة القرار الأرعن الذي اتخذه "حزب الله" تحت مسمى المساندة.
في حينه لم ينبس أبو عباس بوجه أبي سامي ببنت شفة. استوعب غضبه وقال له: "صلِ ع النبي يا بو سيمي... مش مِحرزة". وانفضت المشكلة عند هذا الحد. انتهت الحرب وعاد كل أدراجه، وأمسينا نتصل بأبي عباس لنطمئن إليه وإلى عائلته وأين يسكنون بعد هدم منزلهم في الجنوب.
آخر مرة اتصلنا بأبي عباس قبل أيام، وسألناه إن كان سيشارك بتأبين سماحة الأمينين العامين السيدين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين (رحمهما الله) كي نكسبه على فنجان قهوة وننفخ معه مرارتنا في نَفَس أرجيلة، فأخبرنا أبو عباس بأنّه "ملبوش" برفع الردم الخاص بمنزله.
سألناه كذلك عن مستقبل إعادة الإعمار في ظلّ الظروف الحالية وإن كان يرى أيّ بصيص أمل بذلك، فأجاب بكلمة مختصرة تحاكي المصابين: "الإعمار بيد الله".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|